احسان الفقيه / كاتب اردنية
يقول تشرشل: «في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم هناك مصالح دائمة». ربما خرق رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي تلك القاعدة، فاتخذ من أردوغان وحكومته عدوا دائما بدون النظر في حسابات المصالح الاستراتيجية، يتحين كل فرصة لكي ينابذه العداء، وينظر موقع الأتراك ليتخندق ضدهم.
قام السيسي في بداية حكمه بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان، رغم أنها تتضمن تجاهلا لحقوق الشمال القبرصي (القبارصة الأتراك) وينتقص من المياه التركية لصالح اليونان، فكان الاتفاق تنازلا من مصر عن حقول الغاز «ليفيان» و»إفروديت» لإسرائيل وقبرص، رغم وقوعهما ضمن المياه الاقتصادية المصرية، كما تمّ منح اليونان حق الاستغلال الاقتصادي لجزيرة «كاستلوريزو» المتنازع عليها، ما أدى إلى تماسّ الحدود البحرية لليونان وقبرص وإسرائيل، ترتب عليه التكريس لسيادة تلك الدول الثلاث على مواطن الطاقة الأبرز في المتوسط، في إطار العمل على منع تركيا من التنقيب، وتمرير الغاز الإسرائيلي لأوروبا.
عقب الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، عرقلت حكومة السيسي إصدار بيان في مجلس الأمن يدين المحاولة الانقلابية، بسبب اعتراضها على عبارة في مسودة البيان جاء فيها «تدعو كل الأطراف إلى احترام الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في تركيا»، نكاية في حكومة أردوغان.
وعندما دخلت القوات التركية سوريا المتاخمة لحدودها، دعا نظام السيسي إلى قمة عربية، واستنكر وشجب وندّد، واعتبره احتلالا تركيا لسوريا، بينما لم يحرك ساكنا إزاء القوات الروسية الآتية من بعيد، ولم يندد بوجود الحرس الثوري الإيراني والميلشيات الموالية لإيران في سوريا، التي تقاتل جميعها من أجل دعم بشار.
واستضافت قناة مصرية زعيمَ الكيان الموازي في تركيا فتح الله كولن، الذي يُتهم بالضلوع في الانقلاب، ويحظى بدعم أمريكا ورعايتها، ليكون منصة للهجوم المصري على الحكومة التركية. ومؤخرا ثارت ثائرة نظام السيسي وإعلامه للاتفاقية المبرمة بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليا، التي تضمنت مذكرتي تفاهم، الأولى تتعلق بترسيم الحدود البحرية بينهما في البحر المتوسط، والثانية تتعلق بالتعاون العسكري وتقضي بإرسال قوات تركية إلى ليبيا لدعم حكومة السراج ضد قوات حفتر، إذا طلبت حكومة الوفاق ذلك.
نظام السيسي رأس الحربة في تفريغ الساحة من الأتراك، لإنجاح التحالف الإسرائيلي العربي الجديد وتصفية القضية الفلسطينية بشكل أبدي
وعلى الرغم من أن وزير الخارجية المصري سامح شكري، صرح بأن الاتفاقية بين تركيا وليبيا لا تمس مصالح مصر، ولكن تمس مصالح دول أخرى، إلا أن النظام حمل على عاتقه الهجوم على تركيا نيابة عن إسرائيل.
وفي الوقت الذي يشن فيه الطيران المصري غارات على المدن الليبية بالتنسيق مع حفتر، وفي الوقت الذي يصرح السيسي بأنه يدعم الجنرال الليبي المنشق ضد حكومة السراج، يُندد باعتزام تركيا إرسال قوات إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق، ويزعم أنه يضر بالتسوية السياسية، فهو يؤيد طرفا ضد الآخر، ثم يستنكر أن تفعل تركيا الشيء نفسه، مع الفارق أن أردوغان يتمتع بغطاء شرعي، إذ أنه سيدخل قواته بناء على طلب حكومة معترف بها دوليا. والسؤال هنا: لماذا يكيد السيسي لأردوغان وحكومته على هذا النحو؟ هل هو ثأر شخصي بين السيسي وأردوغان، نظرًا لأن الأخير لم يعترف بشرعيته ويهاجمه في خطاباته، وفتح بلاده لمعارضي الانقلاب الدموي الذي أوصل السيسي إلى عرش مصر؟ هل يفعل السيسي ذلك نيابة عن السعودية والإمارات بالأُجرة، بما عرف عن الدولتين من العداء لتركيا؟ هل السبب يكمن في أن نظام السيسي يسعى للتنافس مع تركيا بعد تنامي قوتها، على اعتبار الثقل السياسي والتاريخي والجغرافي والعسكري لمصر في المنطقة؟ هل هو بسبب ما يُقال عن الدعم التركي لجماعات الإسلام السياسي، التي تلاحقها الأنظمة المصرية والإماراتية والسعودية؟
ربما كان كل ذلك صحيحًا، أو هو أسباب فرعية، إلا أن هناك سببا جامعا يُعد هو الأصل من وجهة نظري، وهو العمل جنبا إلى جنب مع دول خليجية لشرق أوسط جديد، لصالح العدو الصهيوأمريكي، بنقل معركة العرب من الجبهة الإسرائيلية إلى الجبهة التركية، أي تحويل قبلة العداء العربي إلى تركيا بدلا من دولة الاحتلال. وأقول تركيا تحديدًا، لأنها الدولة الوحيدة في المنطقة، التي يمكن لها تشكيل تحالف يهدد الأمن الإسرائيلي، فهي دولة قوية عسكريا واقتصاديا، جعلت من العرب ـ في حكم العدالة والتنمية ـ مجالا حيويا لها، استنادا للبعد التاريخي والثقافي والجغرافي، وليس لديه مشكلة تجاه التيار الإسلامي المتغلغل في معظم الدول العربية وهو الأمر الذي يقلق حكومة الاحتلال، ولعل أقرب مثال سابق على هذا، التحالف التركي المصري في ظل حكم الرئيس محمد مرسي، الذي كانت ترتعد من فرائص الصهاينة، بما لم يكن خافيا على أحد آنذاك، وهي دولة كذلك تحسن إدارة ملفات التعاون والتحالف والعمل على الأرضيات المشتركة، إضافة إلى أن تركيا دولة ذات سيادة وعصيّة على التركيع، سواء لواشنطن أو روسيا، ولا ينفي ذلك كونها تستغل المساحات الخضراء وتقاطع المصالح مع القوى الكبرى، لكنها أثبتت في غير ملف أنها لا تقبل بالتبعية.
باختصار، نظام السيسي رأس الحربة في تفريغ الساحة من الأتراك، لإنجاح التحالف الإسرائيلي العربي الجديد وتصفية القضية الفلسطينية بشكل أبدي. ويترتب على ذلك سؤال آخر: لماذا يقدم السيسي كل هذه القرابين؟ ولصالح من؟ شخصيا أعارض فكرة القول بأن السيسي ابنٌ لأم يهودية ومن ثم يعمل لصالح الصهاينة، وأراها فكرة ساذجة، وترويجها يضر بالتيار المعارض للسيسي ولا تفيده، ولكن ما يظهر لي أن السيسي بالأساس لديه هوس قديم بالسلطة، كما ظهر في تصريحاته بعد الانقلاب وقبل توليه الحكم، ومناماته التي تنبئ بحكمه لمصر، كما ظهر هذا الهوس بعد ما صار رئيسا لمصر، خاصة قسَمه أنه لن يسمح لأحد بالاقتراب من الكرسي. لكن السيسي لا يقر لعرشه قرار، فهو صاحب ملف حقوقي أسود، تطارده لعنه ضحاياه، وأثبت فشله في الملف الاقتصادي خاصة، ويسعى لاكتساب شرعية مكتملة، ينشدها في العمل بالوكالة لتحقيق المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة المبنية على حفظ الأمن القومي الإسرائيلي، فهي الضمان الوحيد لبقائه في السلطة التي يطمح إليها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.