أحدى الطرائف التي صادفتني أنه يوما ذهبت للعاصمة لزيارة بعض الأقارب هناك .. فكان ان خرجت صباحا اتنزه في شوارعها و محلاتها التي تزخر بماركات عالمية ثمنها يفوق راتبي الهزيل وقتها – لا يزال هزيلا حتى كتابة هذه الأسطر .. لكن هذا لا يهم – و أشاهد الموظفين يمضون بحزم نحو مكاتبهم . سرعان ما أحسست بالملل فقررت الذهاب الى احد المقاهي المجاورة لدار البريهي لآخذ قهوة و أقرا جرائد اليوم .
قبل هذا عرجت على مكتب التبغ و اشتريت علبة سجائر شقراء كنت مدمنا على تدخينها بشراهة لا مثيل لها . كانت العلبة التي بجيبي قد شارفت على الإنتهاء. اخترت طاولة مشمسة و طلبت من النادل قهوة بقطعة سكر واحدة . أومأ براسه موافقا على طلبي و اختفى داخل المقهى .
وضعت العلبتين فوق الطاولة و أشعلت سيجارة .. اتذكر اني سهوت أفكر في موضوع كان يشغل بالي آنذاك . فلم ألاحظ وقوف شاب أمامي حتى وجدته يأخذ العلبة من أمامي و يفتحها ثم يأخذ سيجارة منها و يضعها بين شفتيه .. تناول أيضا القداحة التي كانت فوق الطاولة و أشعلها .
كان شابا في مقتبل العمر ، يلبس بدلة زرقاء بقميص أبيض و ربطة عنق حمراء . ينتعل حذاء جلديا اسود و ساعة روليكس مقلدة و تفوح منه رائحة عطر قوية
هيأته توحي أنه موظف بإحدى الوكالات البنكية المنتشرة كالفطر في تلك المنطقة أو موزع تجاري لشركة أدوية ينتظر فتح العيادات حتى يقابل الأطباء و يعرض عليهم ما يبيع من مستحضرات طبية و تجميلية
السحبة الاولى اخذت منه وقتا طويلا، ترك العنان لفمه و أنفه لطرد أول أكسيد الكربون، أخذ وقتا إضافيا و هو يتأمل سحابة الدخان التي صنعها و هي تتلاشى في الهواء . ثم أخذ رشفة أخرى لا تقل عمقا عن سابقتها ، نفث الدخان قبل أن يأخذ من العلبة الشبه فارغة ثلاث سجائر وضعها برفق في جيب سترته الداخلي، و بالمقابل أخرج ورقة نقدية خضراء وضعها فوق الطاولة أمامي غير آبه للدهشة التي غيرت ملامح وجهي .
في نفس الوقت وصل النادل بخطى سريعة يحمل صينية بها فنجان القهوة التي طلبت و قارورة من الماء المعدني . قام بوضعها على الطاولة و قال مبررا تأخره عن احضار الطلبية : أحسن قهوة للاستاذ .
كان هذا المشهد كفيلا بتفسير سوء الفهم لصديقنا الأنيق الذي احمرت وجنتاه من هول الصدمة و أخذ يتمتم بكلمات اعتذار : ضننتك تبيع …. أ ..أ … المعذرة .. آسف سيدي . تبا ..
انفجرت ضاحكا حتى دمعت عيناي و أشرت له بيدي حتى يكف عن الكلام .. بينما انتقلت الدهشة مني إليه ،
– ظننتَ اني ابيع السجائر ؟!! .
– أوه .. نعم .. عندما رأيت علبتين فوق الطاولة .. و في نفس المكان الذي يجلس فيه “با المكي”
تدخل النادل ليفسر ان “با المكي” جندي متقاعد طيب ، يشغل وقته ببيع السجائر في ذاك المقهى و مشاركة الناس احاديثهم و نقاشاتهم .
طلبت من الشاب إرجاع النقود الى جيبه و الاحتفاظ بالسجائر، بينما كان يحاول الاعتذار مجددا و يقترح دفع ثمن فنجان القهوة .