شهدت المعارضة التركية تحولات تاريخية، خلال السنوات الماضية، في مساعيها للتمكن من وضع حد لاستمرار حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي المحافظ، ورئيسه، رجب طيب اردوغان، في الحكم المتواصل منذ 17 عاماً دون توقف.
وإلى جانب مساعي تعزيز العمل التنظيمي ووسائل مخاطبة المجتمع التركي، اضطر حزب «الشعب الجمهوري»، أكبر أحزاب المعارضة لبناء تحالفات مع أحزاب عديدة تخالفه فكرياً بدرجات صادمة، حيث شكل تحالفاً مع أحزاب «السعادة» الإسلامي، و«الجيد» القومي، وصولاً للتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
لكن التحول الأبرز كان على ما يبدو وصول الحزب العلماني الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، إلى قناعة نهائية بضرورة تقديم خطاب محافظ للمجتمع التركي، وتبديد مخاوفه من التوجهات العلمانية المتشددة للحزب، وذلك في مسعى لتعزيز فرصه في الحصول على نسبة أفضل من الأصوات، عقب خسارته سلسلة طويلة جداً من الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية طوال الـ17 عاماً الماضية.
وخلال الحملة الانتخابية للانتخابات المحلية/البلدية التي شهدتها تركيا نهاية الشهر الماضي قدم الحزب «خطاب محافظ» ولو في إطار محدود في تحول تاريخي غير مسبوق في الخطاب المستخدم من قبل الحزب الذي يعرف عنه تبني توجه «علماني متطرف» و«معادي للمظاهر الدينية الإسلامية» خلال عقود حكمه للبلاد.
وركز هذا الخطاب على محاولة تبديد مخاوف المجتمع التركي من أن الحزب لا يمكن أن يعود لتنفيذ السياسات التي نفذها في العقود السابقة والتي تمثلت في التضيق على ممارسة الحريات الدينية، وارتداء الحجاب، ورعاية المساجد وغيرها.
ويعتقد على نطاق واسع أن التغير الملحوظ في مخاطبة الحزب للطبقة المحافظة، والتي تمثل أكثر من نصف الشعب التركي، ساهم في تعزيز أصواته في الانتخابات ومكنه من تحقيق أفضل نتائج له منذ 17 عاماً من خلال فوزه بالانتخابات البلدية في كبرى المحافظات ومنها إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا.
ويركز حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يحصل على شعبيته من المحافظين الأتراك بدرجة أساسية على تخويف الشارع من عودة حزب الشعب الجمهوري للحكم، وبالتالي عودة سياسات التضييق على العبادات والحجاب والتعليم والعمل للمحافظين، وهو ما سعى الحزب لتفنيده.
وفي تحول غير مسبوق، يعتبر أكرم إمام أوغلو الذي ما زال متقدماً، والأقرب للفوز برئاسة بلدية إسطنبول، أحد أبناء عائلة تركية محافظة من ساحل البحر الأسود، درس على غرار اردوغان في المدارس الدينية «مدارس إمام خطيب»، ووالده أحد مسؤولي حزب «الوطن الأم» المحافظ.
وخلال حملته الانتخابية، قدم إمام أوغلو خطاباً محافظاً ندر صدوره عن قيادي بحزب الشعب الجمهوري، والتقطت له مقاطع فيديو وهو يصلي بانتظام في المساجد، وأخرى له وهو يقرأ القرآن على أرواح ضحايا هجوم نيوزيلندا الإرهابي، وطالب مراراً الشعب التركي بعدم تصديق خطاب اردوغان بأن المعارضة ستضيق على الحريات الدينية للمواطنين، واعتبر ذلك «استخداماً للدين».
ونشر في مناسبات مختلفة صوراً له مع والدته المحجبة، وصور أخرى انتشار المصاحف في منزله ومكتبه، وطلبه الدعاء له من كبار السن كلما صادفهم في طرقات إسطنبول، في إجراءات مدروسة نجحت في تبديد مخاوف جانب من المحافظين الأتراك.
وعلى الرغم من أن مرشح حزب الشعب الجمهوري في العاصمة أنقرة، منصور يافاش، كان أقل تديناً من إمام أوغلو إلا أنه لا يعتبر على الإطلاق من «العلمانيين المتشددين»، ونشر فور نجاحه بانتخابات العاصمة لوحات ضخمة في عموم العاصمة كتب عليها «هيا بسم الله».
وفي خطوة مشابهة، قام مرشح حزب الشعب الذي فاز برئاسة بلدية محافظة بولو، وسط البلاد، ببدء مهامه برئاسة البلدية من خلال القسم على القرآن، وتقبيله في خطوة لا ينص عليها القانون التركي، وإنما جاءت في نفس سياق تقديم خطاب محافظ للمجتمع التركي.
وخلال الحملة الانتخابية، قام مرشحون مختلفون عن حزب الشعب الجمهوري بتوزيع مسابح وسجادات صلاة، وأغطية رأس، مختلفة للسيدات وضعت في مظاريف تحمل شعار حزب الشعب الجمهوري الذي ظل لعقود طويلة بعيداً عن أي خطاب ديني أو محافظ.