دراما مغربية جديدة والتي تعتبر نقلة نوعية في مسيرة الإنتاج المغربي، مكملة للطفرة التي بدأت في الأعوام الأخيرة في الساحة الفنية المغربية.
في هذا العمل، يجد المشاهد نفسه متوغلا في روح بحث المرء عن حقيقة وجوده عبر شخصية “يحي” التي يؤديها الفنان الموهوب عبد الإله رشيد. وهي شخصية ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب كما يقال، لتصدم في اليوم الذي كان مفترضا لها أن تتوج فيه على هذا النعيم، أنها عاشت كل عمرها في وهم، وأن كل ماهو ينتمي إليه سراب وصدفة، كان نتيجة تصرف إنسانة تملكها الخوف، وإنسان تملكته أفكار التخلف.
لا أريد أن أكشف أحداث المسلسل، لكنه عمل درامي يستحق المشاهدة والتفكر في أبعاده.
كمشاهدة أحب التركيز في التفاصيل، وكرأي خاص أود به الأفضل للقائمين على العمل، وتقدير للجهود مبذولة فيه.أحببت أن أتقاسم بعض الإنطباعات.
أولا، العمل يحتوي على جرعة كبيرة من الجماليات الموظفة في مكانها الصحيح. بمعنى، الأسرة الفقيرة لا تتعارض مع النظافة والترتيب، والأسرة الغنية هم أيضا أناس بسيطة ومتواضعة. فجميل هو الفن حين يهذب الطبقات في اللاوعي الإجتماعي دون أن يبتعد عن الواقع، بالتقليل من إنسانية أي طرف على حساب الآخر.
أيضا وبعد مرور عشر حلقات، لفت نظري في العمل أنه سلسل ومرن في التنقل بين الأحداث. وكما هو معلوم للمتابعين. الدراما المغربية أصبحت تنافس الإنتاج العربي، وهذا الأسلوب المرافق لهذه التقنيات هي لغة سينمائية صريحة. ومعروف أن المخرجين المغاربة متشبعين بثقافة الإخراج الأوروبية، خاصة الفرنسية. لذلك جميل أن تظهر ثقافة الرؤية والمخزون الثقافي في أعمال تنافس على المستوى العربي، إطارها قصة بمضمون إنساني.
أيضا كان اختيارا رائعا من الإخراج في ضم نجمتين قديرتين في عمل واحد بهذا المستوى. وهما النجمة المتألقة والقديرة سعاد خيي والرائعة والمتميزة فاطمة خير.
فنرى أن كل منهما يعطي عصارة تجربته في هذا المجال مع كل مشهد.
فعلى سبيل المثال نرى النجمة سعاد خيي في شخصية كلثوم تلك المغلوبة على أمرها والمقهورة بشكل لا يحتمل الشك، وفاطمة خير تلك السيدة الأرستقراطية التي تورطت بعد وفاة زوجها في مشاكل أسرية قاهرة بشكل مقنع.
أحب تأمل بؤبؤ عيني الفنان، فهناك فقط تعرف مدى تركيز ذهنه على ما يقوم به، وقد كانتا رائعتان.
في إطار النقد البناء. هناك ثغرة إطلالات الفنانة أحلام الزعيمي. فهي تقدم دور إبنة سعاد خيي الهاربة من القرية قبل سنوات بسبب أحداث بنيت عليها دراما المسلسل، ليعيشا لاحقا معا في فقر وقلة.
فلم يكن مناسبا مشاهدة شابة تعاني من أرق مصروف الكراء والمأكل، بحقائب متنوعة، شديدة الأناقة وعالية الجودة في كل مشهد. المنهك من الإيجار والمستوى البسيط وطبعا المحافظ على كرامته، تجد أغراضه بسيطة وقد يكون فيها عيوب يداريها قدر المستطاع وهي تعد على الأصابع. بينما الزعيمي كانت تفاصيلها في أغلب المشاهد شديدة الأناقة والتنوع وهو ما لا ينطبق مع عمق الحالة المادية للشخصية، فلا يوجد فقير ميسور (الفقير فقير).
طبعا هناك ثغرات بسيطة كالتي تحدث في أي عمل وبالذات في مشاهد الكومبارس.
مثلا مشهد ضم المحقق والممرضة، حين سألها سؤال فردت عليه بجواب غير متناغم ودون ربط وهنا يتدخل المونتاج. مشهد مغادرة “يحي” مع الشابة التي طلبت اعتقاله من مركز الشرطة والضابط جالس في مكانه دون هيبة السلطة. فالأصح أن تركيز رجل السلطة يبقى لآخر لحظة مع من معه، وحين يهم أحدهم بالمغادرة يكون في وضعية الإنتباه لا اللامبالاة. أيضا ثغرة عملية القبض على يحي في الكراج والتي كانت مبالغة جدا. أمور يمكن تجنبها بالتركيز أكثر على التفاصيل والسيناريو، فالإبداع دقة وجودة المنطق، وهو ما يعني الإهتمام بالتفاصيل.
فيما يخص مسألة نقد البعض لخفة حركة الممثلين الجدد. فهذا أمر طبيعي، لأنها تجربته الأولى ومعها يكسر الممثل الجديد حاجز الغربة عن الأضواء والكاميرا. وقد قالها الراحل نور الشريف رحمة الله عليه للنجم عمرو يوسف في أول تجربته معه، في أحد حوارته التليفزيونية “أنصح عمرو إنو يركز في إنو يتكلم بهدوء ويحاول مايسرعش في الكلام، وده مش غلط ولا يعني انو مش كويس، لأن أي ممثل مبتدأ بيمر بنفس المراحل”.
في نفس الوقت فإن من مهام الإخراج الأولى الدقة في اختيار القدرات المناسبة للدور المناسب، وهنا نجد أهمية الإهتمام بخرجين المعهد العالي للمسرح، وأيضا أن يعمل صناع الدراما المغربية بشكل أوسع مستقبلا في مسألة إدارة الممثل أو الفنان بشكل عام. فحين ننظر نجد أن أكبر النجوم في العالم يقف خلفهم بالدرجة الأولى مدرب مختص، ما بالك مواهب في أول طريقها منها من لم يدرس التمثيل، أو حتى فنانين كبار حين تقترح عليهم شخصيات مركبة في عمل بميزانية ضخمة.
كل هذه أمور إن ركز عليها القائمين على الإنتاج في المغرب بشكل مكثف وجدي، سيكون النجاح والتألق حليفهم دوما.
جدير بالذكر أن عملية إخراج مسلسل “شهادة ميلاد” كان ثنائيا. وهما المخرج حميد الزيان والمخرجة إلهام العلمي، وهو مسلسل يتكون من 60 حلقة مليئة بالإثارة والتشويق والتصاعد في الأحداث رفقة كوكبة من ألمع النجوم المغاربة، أذكر منهم فريد الركراكي، ياسين أحجام، رفيق بوبكر، عبد الحق مجاهد، منصور بدري، رشيد فكاك وآخرون. مع موسيقى تصويرية مبدعة ومتناغمة مع أحداث العمل التي تتمحور حول الإنسان وأعماقه. فنجدها قريبة للنغمة الصوفية أو الروحية وهو ما يليق بمستوى المشاهد والسامع.
فرجة ممتعة لعشاق الدراما.