يقول الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، إن حكومته عازمة على الارتقاء بتركيا إلى «المكانة التي تستحقها في النظام العالمي الجديد المرتقب ظهوره عقب تفشي وباء كورونا الجديد»، مشدداً في أكثر من خطاب على إيمانه بأن العالم ما بعد كورونا لن يكون كما قبلها، وأننا سنشهد ظهور نظام عالمي جديد ستكون لتركيا موقع أهم فيه.
ويقول الناطق باسم الرئاسة، إبراهيم قالن، إن انتشار كورونا كشف عن خلل في المؤسسات الإقليمية والدولية القائمة، وإن «تغييراً جذرياً سيطر على النظام العالمي في عدة أصعدة» في ضوء انتشار الفيروس، إلا أنه اعترف بأنه ليس واضحاً بعد أي نوع من النظام السياسي العالمي سيظهر بعد أزمة كورونا.
بهذه التصريحات وغيرها لعدد من كبار المسؤولين، تؤكد تركيا أن العالم سيتغير بعد كورونا وأن نظاماً عالمياً جديداً سوف يحكم العالم، وسط تفاؤل وإيمان قوي بأن أنقرة سوف تجد مكانة أهم وأكبر في النظام الجديد بعد أن تخرج «أقوى من السابق من هذه الأزمة العالمية».
عملياً، ثبت أن تركيا نجحت إلى درجة كبيرة في التعامل مع أزمة انتشار فيروس كورونا من الناحية الطبية، وأثبتت أنها تمتلك منظومة طبية ضخمة ومتطورة وقادرة على استيعاب أعداد هائلة من المرضى على عكس ما فشلت فيه الكثير من الدول الكبرى حول العالم كالولايات المتحدة، وإيطاليا، وإسبانيا، وغيرها من الدول.
فعلى الرغم من وصول عدد المصابين إلى قرابة 120 ألفاً، إلا أن المستشفيات ما زالت قادرة على استيعاب ضعف هذا الرقم وأن الطاقة الاستيعابية للأسرة وغرف العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي لم تتجاوز الـ 50٪ بعد، وتسجيل نسبة وفيات منخفضة ونسبة تعافٍ عالية وصلت إلى قرابة نصف عدد المصابين.
ومتسلحة بتحقيقها الاكتفاء الذاتي الداخلي وعدم وجود أزمة في تعاملها الصحي مع الأزمة، تمكنت تركيا من إرسال المساعدات الطبية والإنسانية إلى أكثر من 60 دولة حول العالم، ووجهت رسائل إنسانية واقتصادية وسياسية بأبعاد استراتيجية إلى الدول الكبرى التي وصلتها طائرات المساعدات التركية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا ودول أوروبية والبلقان والعالم العربي وصولاً إلى كولومبيا في أمريكا الجنوبية ومملكة ليسوتو في إفريقيا.
وترى تركيا أنها «نجحت» في إدارة الأزمة، بينما واجهت معظم الدول الكبرى صعوبات كبيرة وظهرت فيها مشاكل خطيرة تتعلق بمدى قوة الأنظمة الصحية في هذه الدول وقدرتها على الاستجابة السريعة للأزمة وإدارتها وتوفير المعدات الطبية والوقائية، وغيرها. كما ترى تركيا أنه في الوقت الذي سارعت فيه الدول كافة للحفاظ على مواردها بل وسيطرت على شحنات المواد الطبية التي كانت في طريقها إلى الدول الأخرى فيما يشبه القرصنة، سارعت هي لتوزيع المساعدات على 60 دولة حول العالم.
وانطلاقاً من هذه المقاربة، ترى تركيا أنها تستحق بأن تحصل على مكانة أهم وأكبر في النظام العالمي الذي سوف يتشكل عقب كورونا، حيث تؤمن بإمكانية حصول تغيير على مستويات مختلفة ومنها الأمم المتحدة والأحلاف الإقليمية السياسية والاقتصادية وتوزيع حصة الصناعة والتجارة الدولية.
ويقول قالن: «مشروعية العديد من الهيئات والمؤسسات الدولية باتت على المحك. سيتم التساؤل عن مدى فعالية منظمة الصحة العالمية في هذه المرحلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى منظمة التعاون الإسلامي، لأنها لم تبدِ الريادة الكافية في هذه الفترة»، لافتاً إلى الانتقادات اللاذعة التي يتعرض لها الاتحاد الأوروبي. وأضاف: «نشاهد الأوضاع التي وصلت إليها دول أكبر منا بالاقتصاد والقوة العسكرية. هذه الظروف أتاحت لنا فرصة رؤية ما يمكن أن نفعله بالإمكانات المتوافرة بين أيدينا».
وتأمل تركيا أن يجد شعارها «العالم أكبر من خمسة» آذاناً صاغية في أصداء الأمم المتحدة هذه المرة، حيث أطلق اردوغان هذا الشعار منذ سنوات للتأكيد على ضرورة تغيير النظام العالمي لا سيما نظام الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي يتهمها بالتحكم بمصير العالم وفقاً لمصالحها، وطالب مراراً بأن يكون هناك مقعد دائم لدولة إسلامية.
سياسة المساعدات والقوة السياسية الناعمة اتبعتها تركيا في العقد الأخير بشكل فعال، ومن خلال مساعداتها لعشرات الدول الفقيرة في إفريقيا وغيرها، نحت أنقرة في كسب ثقة الكثير من الدول وبالتالي أصواتها في أروقة الأمم المتحدة وهيئاتها الأممية المختلفة مما أكسبها زخماً سياسياً كبيراً، وفي ظل هذه الأزمة وما قدمته تركيا من مساعدات أوسع لعدد أكبر من الدول تبدو تركيا كمن يؤسس لمزيد من الأصدقاء، وبالتالي الأصوات الداعمة لمشاريعها ورؤيتها في الهيئات الأممية المختلفة.
إلى جانب ذلك، ترسل تركيا رسائل قوية إلى الدول الكبرى من أمريكا وبريطانيا وروسيا والصين بأنها دولة مهمة وقوية وأنها مكسب لأي حلف دولي، وأنها قادرة على أن توفر الأمن الطبي والغذائي لها ولحلفائها في أوقات الأزمات، وبالتالي فإنها قادرة على العطاء أكبر في أوقات الرفاه، وهذا يعني أن أزمة كورونا يمكن أن تؤثر بقوة وبدرجة أساسية على العلاقات التركية الأمريكية التركية المتوترة منذ سنوات.
وفي رسالة بعثها اردوغان عقب إرسال طائرتي مساعدات من أنقرة إلى واشنطن، خاطب ترامب بالقول: «أعتقد بضرورة وأهمية التنسيق والتعاون الوثيق بعد الوباء من أجل تفعيل الإصلاحات والتعديلات التي يطلبها النظام العالمي، وفي مقدمتها ضمان تعافي الاقتصاد العالمي»، مضيفاً: «ينبغي الاستفادة من هذه الأجواء في تطوير العلاقات التركية-الأمريكية في جميع المجالات، وتفعيل الإمكانات التي يتمتع بها البلدان بأقصى درجة، وخاصة على صعيد هدف رفع التجارة بين البلدين إلى 100 مليار دولار»، وتابع: «آمل أن يدرك الكونغرس والإعلام الأمريكي مستقبلاً، وبشكل أفضل، الأهمية الاستراتيجية لعلاقاتنا، بتأثير هذا التضامن الذي أظهرناه خلال الوباء».
واقتصادياً، وجهت تركيا رسائل للعالم بأنها تمتلك منظومة صناعة قوية، كانت قادرة على توفير كافة الاحتياجات للداخل وإنتاج ما يكفي لتقديم المساعدات لعشرات الدول، حيث تعول أنقرة على أن الكثير من الشركات العالمية سوف تعيد النظر بطريقة عملها وتفكر في نقل استثماراتها ومصنعها إلى تركيا، لكن التعويل الأكبر يتمحور حول إمكانية تقليل الولايات المتحدة ولو جزئياً اعتمادها على السوق الصيني وتوجهها نحو السوق التركي، وهو ما قدر يخلق فرصة عظيمة للصناعات التركية.
هذه التحولات وغيرها من شأنها أن تصب في مجملها لصالح تعزيز المكانة السياسية لتركيا إقليمياً ودولياً وتكسبها زخماً أكثر يُمكنها من المضي قدماً في طرح نفسها كدولة أكبر من إقليمية بعدما تراجعت أولويتها السابقة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي نجحت في هز صورته بعدما ظهرت كمن يهرع لمساعدته في ظل عجز كبير في مبادئ التضامن الأوروبي وسط شكوك حول تماسكه وقوته في النظام العالمي الجديد لمرحلة ما بعد كورونا.
اسماعيل كايا / اسطنبول