منصف الوهايبي، كاتب تونسي
نحن لا نلتقي أبدا بـ”الكائن البشري” أو “الإنسان” لا في الطبيعة ولا في العمران وإنّما بالفرد. وشتّان بين الأوّل وهو “كليّة” مجرّدة، والثاني وهو حقيقة واقعيّة أو عينيّة. ويعرف أكثرنا أنّه ليس بميسورنا إنكار وجود الكلّيّ، أو وجود مفهوم كلّيّ للأشياء، أو حدّ كلّي لجنس أو لنوع من الأشياء. لكنّ كثيرا أو قليلا منّا ينكر أن يكون هذا الكلّي، مفهوما كان أو جنسا، وجودا قبليّا على غراره توجد بعديّا الأشياء المنسوبة إليه. وإذا كان لهذا الكلّيّ أن يوجد، فلَهُ أن يوجد من جهة كونه مؤمّلا بعْدُ، أي من جهة كونه رهان الأشياء تختبر كينونتَها الفعليّة على محكّه عساها تدركه. وما هي بمدركته ما دامت تجري في أفق من الوجود مفتوح أبدا. وهذا “المفتوح أبدا” هو الكلّيّ، ومثل هذا لا يقال ولا يحدّ في مفهوم. فإذا ما قيل أو حُدّ فعلى سبيل الافتراض، ليس إلاّ.
وعليه، فإنّ ما هو موجود فعليّا من الأشياء، إنّما يتعلّق بفرديّات، وليس بكلّيات هي حدود يضعها العقل البشريّ بدافع الرّغبة في إدراك حقائق الأشياء، لا غير. والكائن البشري أو هذا “المجرّد” فكرة أفلاطونيّة، وهو على رأي ألكسيس كارفال، يعيش في فكرنا وفي كتبنا؛ ويتكوّن من مجرّدات يدرسها “الوظائفيّون” أو علماء “الفسلجة” أي علم وظائف الأعضاء، وعلماء النفس وعلماء الاجتماع. وطباعه كلّيّات أو جملة من المعاني المجرّدة أو “المحمولات” باصطلاح الفلاسفة.
الفردانيّة مسألة قديمة، لكنّها تطفو اليوم، على نحو مثير بسبب هذا الوباء وهو ليس مجرّد شدّة أو نازلة عظيمة فحسب؛ وإنّما هو جائحة تستأصل طباع الناس، وتكاد تُذهب مجال “العيش معا” وتأتي عليه. على أنّ الفردانيّة فردانيّات، فهي أسلوب في التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفلسفي، حيث الفرد هو أساس المجتمع وقيمه.
وهي تقوم على منح امتيازات تخصّ مصالح الفرد وحقوقه وقيمه، بالنسبة إلى الفئات الاجتماعيّة كلّها، سواء أكانت الأسرة أم رابطة الدم أم الجماعة أم الطائفة أم أهل الحرفة أم المجتمع؛ فالمصلحة الفردية هي التي تهيمن على المصلحة العامة، في الميادين كلّها، الأخلاقي منها والسياسي والاقتصادي؛ وهي التي تتصدّر الحقوق والمسؤوليات.
والفردانيّة على ما يقوله منظّروها، تنهض على قيمتين: الحرية الفرديّة، وهي للفرد قبل حريّة المجتمع، ونزعة الاستقلالية عن الفئات الأخرى؛ وكأنّها حالة نظام بدهيّ نابع من سلطان الإرادة أو الاستقلاليّة الأخلاقيّة، حيث لا دين أو طيف اجتماعي يملي على الفرد أفكاره.
الفرد إذن هو الواقع الوحيد، سيّد جسده وأفعاله وحياته، ومصدر كلّ تقييم أو تقدير. وفي السياسة، فالأولويّة له أي للمبادرة الخاصّة، وفي تقليص دور الدولة إلى الحدّ الأدنى (الليبرالية).
وعلى أساس من ذلك ترفض التيّارات الفردانيّة أيّ نظر في المشاكل البشريّة القائمة أو الطارئة بشكل جماعي. و”الحريّة” التي تدافع عنها، وتعظّمها وتجعلها “قيمة القيم”، إنّما تظهر في حقّ الملكيّة الفرديّة، وحريّة التفكير والتعبير، أو حرية الأخلاق والضمير. وهي أمور قد يتقبّلها كثير منّا، وفيها ما يرضي الفرد لاشكّ الذي يريد أن تكون قيمه بمنأى عن القيم أو الأعراف الجماعيّة السائدة.
لا أحبّ أن أقطع برأي في مسألة كهذه قد تكون أعلق بالفرد منها بالجماعة؛ وهناك أفراد كثيرون سعداء بفردانيّتهم، أو يتهيّأ لهم ذلك. على أنّ هؤلاء مهما يكنْ نصيبهم من السعادة، ليسوا بمنجاة من التّحوّلات التي طرأت على مجمل القيم التي كان الفكر البشريّ ولا يزال يجريها مجرى الوجود، إمّا لرمزيّتها المجرّدة، أو لانتسابها إلى مجال الغائيّة. ونقدّر أنّها متعيّنة في ظلّ تنامي التّدبير الرّأسمالي للاقتصاد وللمجتمع، وفي الشعبويّة والشوفينيّة، واحتدام الحرب “الكورونيّة” الباردة بين أمريكا والصين. والناس اليوم مثل دولهم فرق مختلفة وأهواء مفترقة، وكأنّهم صورة من الآية “أو يَلْبِسَكمْ شِيَعًا”(المؤمنون 93).
يبدأ المشكل، على نحو ما نرى اليوم، في سلوك الأفراد، والدول وخاصّة تلك التي تنعت بـ”المتقدّمة”، عندما يلتبس الأمر ولا تعرف جهته: أهو فردانيّة أم أنانيّة؟ لكن ما هي الأنانيّة؟ أهي نرجسيّة وعبادة ذات؟ أم هي تحرّر من أيّ واجب تضامن مع الآخرين وعيش للنفس فقط؟
قد يكون “الأنانيّ هو الذي لا يفكّر فيّ”. كما يقول أوجين لابيش، أو لا يهتمّ بي أو لا يشغل نفسه بي. وعلى أسّ من هذا التعريف المثير، يتساءل الفيلسوف دومينيك لوكور ما إذا كان يحسن بنا حقّا أن نفكّر في الآخرين؟ ونحن في مجتمعات “تطابق” فيها الأنانيّة الفردانيّة حيث الفرد “سيّد نفسه، ولكنّه في الآن نفسه مُغْفَل غير مميّز ولا مُسمّى، ولا تاريخ له، ومهيّأ للخضوع لكلّ الامتثاليّات [نزعة التقيّد بالأعراف المقرّرة]، وكلّ يزاحم الكلّ، حتى يكون له الصدر دون العالمين، في التفكير والفعل…”. ولعلّه محقّ في عصر تشتدّ فيه النرجسيّة وتحتدّ وتتفاقم، إذ يلاحظ أنّ هناك نوعين من الأنانيّة: إحداهما تصدر عن روح المنافسة، والأخرى تتجلّى في لامبالاة الفرد بغيره أو بالجميع. وهي لا تعني “اللاتفريقيّة” أي الموقف الحيادي المطلق في السياسة والدين، وإنّما عدم الاكتراث أو عدم إغاثة الملهوف، عندما يشيح أيّ منّا بوجهه عن امرأة تعنّف، أو مجرم أو سارق يسلب المارّة أو يبتزّهم. والأولى هي مرادف النجاح الاجتماعي حيث تؤخذ الدنيا غلابا، وكأنّ الإنسان “ذئب الإنسان” أو هو “مُبرمج” لسحق الآخر وإزاحته، من أجل أن يُخلِي المكانَ له وحده، أو يحلّ محلّ غيره. وكان عالم البيولوجيا ريتشارد دوكينز قال عام 1976 إنّ الأنانيّة كامنة في الجينات. ولكن علم الوراثة دحض هذه المزاعم.
قد تكون الأنانيّة بهذا المعنى هي القاعدة الاجتماعيّة حيث النفاق والرياء والمكر والخداع هي مفتاح السرّ في الإنسان أي هذا “الكائن المجرّد” كما سلفت الإشارة. وهذه كلّها من الكلّيّات لابدّ منها من أجل بناء العلم والمفاهيم، وحاجتنا إلى العامّ أو الكائن هي على قدر حاجتنا إلى الخاصّ أو الفرد؛ ونحن نعيش في عالمين مختلفين: عالم الوقائع وعالم الرموز، وفي صراع لا ينقطع من أجل العيش. وهو ما يجعل البعض مثل الأمريكيّة من أصل روسي آين رند (1905/ 1982) تذهب في مصنّفها الأثير في أمريكا “فضيلة الأنانيّة” 1960، إلى أنّ الأناني ليس هو الذي ينتهز الفرص ويستغلّ الآخرين ويفيد منهم؛ وإنّما هو “الذي يمتنع عن استخدام الآخرين، بأيّ وجه من الوجوه، ولا يعيش مرتهنا بهم، ولا يجعل من الآخرين الحافز الأصلي لفَعاله وأفكاره، ولا يستمدّ منهم مصدر طاقته”. وهذه في تقديرها هي “الأنانيّة المعقولة” أي مجموع القيم المكتسبة من أجل بقاء الإنسان إنسانا، وحفظ الجنس البشري.
على أنّي لست بالمتشائم ولا بـ”المتشائل”، فثمّة ناحية في النفس البشريّة قد نغفل عنها، وقد نتناساها، هي “الغيريّة” أي حبّ الغير أو “الإيثار”، حتى عندما نقرأ أنّ الغيريّة شعور نملك الحسّ به، أو هو يمنحنا نوعا من انشراح الصدر وطيبة الخاطر ليس إلاّ. بل إنّ آدم سميث وهو ما هو عند المدافعين عن الليبراليّة الجديدة (يد السوق غير المرئيّة) يقول إنّ الإنسان مدفوع إلى التعاطف أو الاستئناس أو المشاركة الوجدانيّة، والتواصل مع الآخرين. وحاجتنا نحن العرب إلى هذه “الغيريّة” قد تكون اليوم أشدّ، وليس من حقّنا ونحن نرى كيف تنتهك حقوق الشعب السوري أو الفلسطيني أو العمّال المهاجرين الذين تقطّعت بهم السبل؛ أن نلوذ بالنظريّات والأطروحات التي ما انفكّت تؤصّل لخطاب في التشاؤم أو العدميّة، أو للفردانيّة الشوفينيّة.
إنّ للفردانيّة شأنها شأن الأنانيّة حدودا، لعلّ أظهرها ضمان السّلم والأمن والطّمأنينة، وتدبّر شؤون الجماعة بقدر معقول من الدّيمقراطيّة والغيريّة، ونحن لم نوفّر بعدُ الحدّ الأدنى من هذا الضّمان، على اختلاف مجتمعاتنا. فهل الفردانيّة مطلب مشروع لبعض البشر دون الآخرين؟ أم هل هي تجري مجرى التملّك أم مجرى الوجود؟ والأفراد يختلفون عن بعضهم البعض، الأمر الذي يثير أكثر من سؤال، إذ كيف يمكن تشكيل المجتمع عندما “يُقدّس” السعي وراء المصالح الخاصّة، وتشتدّ المنافسة أو رغبة الفرد في إشباع غرائزه أو متعه الخاصّة؟ بل أيّ تماسك اجتماعي ممكن في عالم تتصدّره الفردانيّة؟
ومع ذلك نتساءل ما إذا كان يجوز لنا، حتى لا نصادر حقّ غيرنا أن نحصر مقاربة الفردانية؛ في الانتقال من سجلّ التّعالي أو “الإرجاء الميتافيزيقيّ” أواللاهوتيّ، إلى سجلّ المحايثة؛ حيث سعادة الفرد حبيسة أنماط سلوك وضروب عيش يجري تسويقها بتسخير آليّات كثيرة من الدّعاية والإشهار في حضارة اليوم.
لعلّ المطلوب دائما هو أن نفحص بنية ذواتنا؛ عسى أن نتبيّن ما إذا كان الأمر معقودا على ذاتيّة فرديّة أم على ذاتيّة جمعيّة.