الجميع يتحدث في هذه الأيام عن الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، الذي تقدمه تركيا للحكومة الشرعية في ليبيا. علمًا أن تركيا لا تقوم بهذا الأمر لأول مرة، بل إنها أقدمت على مثل هذه الخطوات حتى في أضعف فتراتها.
ففي عشرينيات القرن الماضي، قدمت الدعم للمقاومين السوريين في مواجهة الفرنسيين. وفي الأربعينيات، زوّدت العديد من البلدان الإسلامية بالأسلحة لدعم نضالها من أجل الاستقلال، بواسطة نوري كيلليغيل، شقيق القائد الشهير أنور باشا. كما قدمت الدعم بالأسلحة للمقاومين الجزائريين ضد الفرنسيين في عام 1957. وقد أوصلت المساعدات إلى الجزائر سرًا بواسطة ملك ليبيا في تلك الفترة الشيخ إدريس السنوسي، ورئيس الوزراء مصطفى بن حليم. والأسلحة المقدمة إلى ليبيا أُرسلت أيضًا على أنها «مستلزمات خردة».
تستفيد تركيا من «الشرعية» التي منحتها الأمم المتحدة لحكومة السراج، لمواصلة مساعداتها في إطار القانون الدولي
ولكن بعد مرور عام واحد، امتنعت تركيا عن التصويت الذي جرى في الأمم المتحدة عام 1958 لصالح استقلال الجزائر. تدعي البيروقراطية التركية العلمانية في ذلك الوقت، أن مثل هذا القرار اتخذ بسبب القلق من احتمالية أن تحيل فرنسا مساعدات الأسلحة إلى المؤسسات الدولية. مهما حصل، كان هذا خطأ كبيرًا، وكان ينبغي أن تكون تركيا أول دولة تعترف بالدولة الشقيقة الجزائر. بعد ذلك بعدة سنوات، وتحديدًا في عام 1985 قام رئيس الوزراء التركي الأسبق تورغوت أوزال، بزيارة إلى الجزائر، كانت الأولى بهذا المستوى، وقدّم خلال تصريحات في المطار اعتذرًا رسميًا لهذا البلد عن موقف تركيا في الأمم المتحدة عام 1958.
تركيا اليوم، تواصل بالروح نفسها مساعدتها العسكرية لأصدقائها في ليبيا، بطرق سرية أو علنية. هذا الأمر لا يتم بقرار من رئيس جمهورية تركيا رجب طيب أردوغان فقط، وإنما هو قرار وافقت عليه الدولة نفسها. وتواصل تركيا دعمها الدبلوماسي والعسكري والنفسي للحكومة الشرعية في ليبيا، وتقوم بعرقلة مؤامرات الذين يريدون تقسيم هذا البلد ونهب ثرواته. لقد تحولت ليبيا إلى مختبر غريب نتيجة كثرة المتدخلين، وتضارب المصالح، وانخفاض عدد السكان، وانخفاض وتيرة الاشتباك، والتضاريس والموارد الطبيعية. تستفيد تركيا من «الشرعية» التي منحتها الأمم المتحدة لحكومة السراج، لمواصلة مساعداتها في إطار القانون الدولي. وتبدي إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى وجهات نظر متشابهة مع تركيا.
بعد أن وضعت تركيا ثقلها في اللعبة، بدأ حفتر يشعر، من جهة، بانعدام الشرعية ومن جهة أخرى يفقد تفوقه العسكري والنفسي. ويبدو أن حفتر وأنصاره، يسعون بعد مشاهدة هذا الوضع، إلى اتخاذ خطوات سياسية لتغيير مسار العملية، وتغيير طابع الاشتباكات. بينما يعلن حفتر تنصيب نفسه رئيسًا للحكومة الليبية، فإنه يحاول أيضًا ربط المشكلة بسوريا، وتوسيع نطاقها إلى خارج ليبيا، من خلال فتح السفارة الليبية، التي تم إغلاقها لسنوات طويلة في سوريا. قضية أخرى تشكل تحديًا بالنسبة إلى حفتر، وهي أن الدول الداعمة له، المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر وروسيا وفرنسا، أدركت أيضًا مدى صعوبة الانخراط في اشتباك عسكري مباشر.
الخسائر الفادحة التي يتعرض لها حفتر، قلبت حسابات البلدان الداعمة له رأسًا على عقب، وأفسدت من جهة أخرى نفسيات ومعنويات المرتزقة، كما تواصل جره إلى مآزق جديدة. حاول حفتر وشركاؤه تغيير الأهداف بسرعة من أجل الخروج من المأزق العسكري، فقد بدأوا باستهداف الأهداف المدنية عبر استراتيجية «توسيع دائرة النار»، التي باتت خطوة تقليدية في المنطقة. وقاموا بتوجيه الصواريخ والمدافع نحو الأهداف التي يسهل ضربها، وغير المحصنة والضعيفة. والهدف من ذلك، هو إرهاب الشعب من طرف، وإظهار تركيا على أنها فاشلة، وطرح الأزمة في الأجندة الدولية من باب الدعاية. في الأسابيع الماضية، قامت تركيا بخطوة مهمة من حيث «استعراض القوة» متنبئة بإمكانية لجوء حفتر إلى تغيير الأهداف، إثر فقدانه للقوة على الصعيد العسكري، أو احتمالية تدخل البلدان الداعمة له بطريقة مباشرة في اللعبة، لتغيير المسار. وتمثلت هذه الخطوة في إجراء مناورات عسكرية بموازاة المياه الإقليمية الليبية، لتستعرض قدراتها في التعاون البري/البحري لمسافات طويلة. بدورها حذّرت وزارة الخارجية التركية حفتر، الذي استهدف الأهداف المدنية، وذكّرت في بيان لها بحزم تركيا وقدرتها.
في خضم المرحلة التي وصلنا إليها، ربما يكون الفهم والتنبؤ بما حدث، وما يمكن أن يحدث، ناقصًا بالنسبة لنا، إذا تناولنا الملف الليبي بمفرده. فلا يمكن تناول ليبيا بمعزل عن ما يجري في سوريا، ولا عن مشكلة شرق البحر الأبيض المتوسط وإيجة، والعلاقات بين السعودية ومصر واليونان وقبرص والإمارات العربية المتحدة، والتنافس الروسي- الأمريكي، وهشاشة الاتحاد الأوروبي والتطورات الاقتصادية.
توران قشلاقجي، كاتب تركي