مضى أكثر من شهرين على التدابير الوقائية التي نعيش في ظلها في تركيا، وتتفاوت هذه المدة بين بلد وآخر بالارتباط مع بدء ظهور الإصابات بالعدوى في كل منها. إنها شروط قاسية للعيش لا يمكن للإنسان السوي أن يعتاد عليها. يشبه الأمر، إلى حد ما، أن تطبق حال الطوارئ على بلد اعتاد سكانه على الحياة في ظل حياة سياسية واجتماعية «طبيعية» إذا جاز التعبير على مدى أجيال عديدة. أما في بلدان مثل بلدي سوريا فقد نشأت أجيال في ظل حال الطوارئ فلم تعرف شكلاً آخر للحياة خارج تلك المظلة القاسية.
فهل يمكننا القياس على الحالة السورية لنقول إن البشر سيعتادون، مع الزمن، على العيش في ظل تدابير استثنائية كما هي الحال الآن؟
لا شيء يقينياً، إذن، مع وباء كورونا. فها هي منظمة الصحة العالمية تعلن تشاؤمها بشأن احتمالات إيجاد لقاح، بعدما كانت أخبار تصدر من مختلف البلدان حول احتمال إيجاد اللقاح المأمول في الخريف القادم أو قبل نهاية العام. هذا يعني أن الأفق ما زال قاتماً بشأن عودة الحياة إلى طبيعتها. نعم هذه هي الجملة الأكثر إلحاحاً منذ بعض الوقت، سواء في تركيا أو في البلدان الأخرى. متى يمكن للحياة أن تعود إلى طبيعتها؟ أم هل علينا الاعتياد على ما يصعب الاعتياد عليه، وتحمل ما لا يمكن تحمله؟
ليتسنى لنا التفكير في هذا السؤال يمكننا أن ننطلق من فرضية معاكسة: لنفترض أنه تم القضاء على انتشار الوباء، ولم تعد تسجل أي إصابات جديدة على المستوى الكوني. فهل يعني ذلك أن «الحياة ستعود إلى طبيعتها؟» أي كما كانت قبل بداية الوباء؟ أم أن الخوف من عودة الوباء أو ظهور وباء فيروسي جديد سيغير كثيراً من سلوكيات البشر وعاداتهم الراسخة؟ من جهة أخرى هل يعود النظام العام إلى وضعه السابق قبل الوباء أم سيتعرض لتغييرات شهدنا طلائعها أثناء انتشار الوباء؟
هناك عدد من العناوين لتغييرات كبيرة في قطاعات معينة من المتوقع ألا تعود إلى ما كانت عليه بعد الآن، ربما كان قطاع التعليم أبرزها. فمنذ شهر شباط، في الحالات المبكرة، ومنذ شهر آذار في أغلب البلدان المنكوبة بالوباء، توقف الدوام في المدارس بمختلف مراحلها، واستعيض عنها بالتعليم عن بعد الذي من المحتمل أن يكون الشكل السائد للتعليم في المستقبل. ومع تمرس المعلمين والطلاب على هذا الشكل من التعليم عن بعد، قد لا يحتاج الأمر إلى العودة إلى الشكل التقليدي، فيكون ذلك بمثابة وضع مناسب لتجنب المخاطر الوبائية المحتملة من غير أن تتعطل العملية التعليمية.
لكن المدرسة ليست فقط وسيلة للتعلم، بل هي، أيضاً وقبل ذلك، مؤسسة اجتماعية يتدرب فيها الأطفال والشباب على الانخراط في المجتمع ويكتسبون خبرات اجتماعية لا يمكن توفيرها في البيت أي في الإطار الأسري الضيق. التعليم عن بعد، من هذا المنظور، هو تغيير كبير يمس تكوين الأفراد منذ مراحل مبكرة من أعمارهم، وهو ما سينعكس على بقية حياتهم، والحياة الاجتماعية بعامة.
إنها شروط قاسية للعيش لا يمكن للإنسان السوي أن يعتاد عليها. يشبه الأمر، إلى حد ما، أن تطبق حال الطوارئ على بلد اعتاد سكانه على الحياة في ظل حياة سياسية واجتماعية «طبيعية» إذا جاز التعبير على مدى أجيال عديدة
من ناحية أخرى، من شأن الانتقال النهائي والشامل إلى نظام التعليم عن بعد أن تقتصر الحاجة إلى المعلمين على عدد محدود منهم، وهو ما يعني الدفع بأعداد كبيرة منهم إلى البطالة. هذا تحد اقتصادي اجتماعي كبير أمام الحكومات. أما المحظوظون منهم الذين سيقومون بوظيفة التعليم عن بعد فسوف يفتقدون إلى خبرات ثمينة يحتاجونها في التعامل مع الطلاب بصورة مباشرة، فالمعرفة الشخصية بالطلاب والتعاطي المباشر معهم تساعد المعلم على تحديد الأسلوب المناسب لنقل المعارف إليهم ومعرفة نقاط ضعفهم ونقاط قوتهم وغير ذلك من الميزات التي لا يمكن للتعليم عن بعد أن يتيحها.
ليس هذا وحسب، فمع تقدم الوسائل التكنولوجية أكثر سيكون بالإمكان الاستغناء، تدريجياً، عن المعلمين واستخدام وسائل غير بشرية في تلقين الطلاب المعلومات والمهارات التي يحتاجون إليها. ومن المنظور الاقتصادي هذا الشكل من التعليم سيكون أقل كلفة على ميزانيات الدول فضلاً عن زوال الفروقات الشخصية بين المعلمين لمصلحة «معلم وحيد» هو المعلم العام من منتجات التكنولوجيا الحديثة منزه، فوق ذلك، عن الخطأ البشري، مقابل اختفاء مهنة التعليم ورفد جيش العاطلين عن العمل بأعداد إضافية ممن احترفوا هذه المهنة في السابق.
لا تقتصر التغييرات التي جاء بها وباء كورونا إلى حياتنا على ميدان التعليم، فهناك ميادين كثيرة من حياة المجتمعات شهدت تغييرات من هذا النوع كلما كان ذلك ممكناً بفضل التطور التكنولوجي، فالحكومات التي صارت تعقد اجتماعاتها بواسطة تقنيات الاتصال الحديثة، ومثلها إدارات الشركات والمنظمات الأخرى الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية، لا شيء يجعلها تعود إلى الشكل التقليدي من تلك الاجتماعات ما دام سيف الأوبئة المحتملة مسلطاً. ومن المحتمل أن يحتل التسوق والتسويق الالكتروني حصة أكبر باطراد من حجم التداولات الإجمالي.
على رغم كل التغيرات المذكورة، وغيرها مما يفيض عن المساحة المتاحة لهذه المقالة، يبقى أنها لن تشمل إلا أقلية صغيرة من المجتمع. أما سائر المجتمع الذي يحتم عليه طبيعة أعماله وأنشطته البقاء في السيستم التقليدي، فسوف يكون عرضة للأوبئة المحتملة أكثر من الأقلية المحظوظة، فضلاً عن انتفاء الحاجة إلى قطاعات غير قليلة من العاملين في مجالات عديدة.
هذا منظور متشائم لا أحبه. بل أرغب بالمشي في الشارع بلا كمامة، وقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء في مقهى، ومشاهدة فيلم في عتمة صالة السينما، واصطحاب أولادي إلى نزهة في الهواء الطلق.
هل يعقل أننا فقدنا كل هذه المتع الصغيرة التي تشكل بمجموعها جوهر الحياة؟
بكر صدقي ، كاتب سوري