سؤال التواصل الحزبي يطرح مجموعة من الإشكاليات و المفاهيم العميقة، المرتبطة بالظاهرة الحزبية المغربية المختلفة عن النماذج المقارنة عبر العالم، من حيث المحددات الفكرية الإيدلوجية و التصنيفية للتنظيم السياسي. ومرد ذلك إلى طبيعة النظام السياسي ككل، وإلى ظروف نشأته وتطوره التاريخي خصوصا ما بعد الإستقلال. فنجد عندنا أحزابا تدعي الإنتساب للليبرالية، و الدفاع عن الحريات السياسية و تتبنى فكر المبادرة الحرة في المجال الإقتصادي، في حين نجدها محافظة أحيانا و أحيانا اخرى ترفع شعارات مناقضة للفكر الليبرالي كما حدده مفكروه و فلاسفته في الغرب. شعارات كالكرامة و العدالة الإجتماعية والتوزانات الإقتصادية وغيرها التي تنتمي إلى قاموس آخر من إنتاج الفكر الإشتراكي الإجتماعي. و العكس أيضا صحيح تجد أحزابا حددت هويتها السياسية و الإقتصادية من منظور اشتراكي، في حين نجدها من خلال برامجها الإنتخابية تدافع عن قيم الليبرالية. و أحزاب أخرى تبنت الطريق الثالث في الليبرالية أو الإشتراكية لكن الممارسة تعطيك الإنطباع بأنه طريق عشوائي مجهول المنطلق و المنتهى. الديمقراطية الإجتماعية أو الليبرالية الإجتماعية فشلتا في الغرب في أمريكا مع كلينتون و في ألمانيا و إسبانيا و غيرها فتسببت في إرتفاع موجة الغضب ضد سياساتها العمومية(1)، فكيف لنماذج فشلت في إيجاد الحلول في بلدانها الأصلية أن تستورد لتحل مشاكلنا؟
وهناك نموذج أخر شكلا ومضمونا في هذا الصدد أسدل حزب التجمع الوطني للأحرار الستار على حملته الوطنية، 100 يوم، 100 مدينة، من اقليم آيت ملول، الاحد 27 شتنبر 2020 ، وهي الحملة التي استهلت أولى محطاتها التواصلية من مدينة دمنات في 2 نونبر 2019، تحت الإشراف الفعلي عزيز أخنوش، رئيس الحزب، وواكبنا أهم محطاتها التي شاركنا في فعالياتها، آمنت بأن الدينامية السياسية تفرض علينا انخراطا أوسع وأشمل في كل المبادرات الحزبية، هذه الحملة همت فتح قنوات للتواصل و النقاش، مع 35 ألف مواطن، واستعراض المشاكل التي تواجههم، وتطلعاتهم لمستقبل أفضل لمدنهم، ليتحقق بذلك يضيف أخنوش، الهدف المرسوم، لهذه الفعالية التواصلية مع المواطن في مختلف الجهات، في استمرارية لدينامية الأحرار التي تضع المواطن في قلب الاهتمام”.
ويتوقع أن تنشر خلاصات هذه اللقاءات في كتاب جديد تحت عنوان “مسار المدن”، والذي سيتضمن النقاشات المؤطرة في كل مدينة، وكذلك بعض الشهادات والتجارب والاقتراحات من المواطنين للنهوض بمدنهم.
اللافت في اختتام محطات هذه الحملة التواصلية، هو دعوة، عزيز أخنوش، في بث مباشر عن بعد جمعه بعشرات الشباب بإقليم آيت ملول، في إختتام محطاتها، “شباب المدن والقرى إلى الانخراط في العمل السياسي للمساهمة عن قرب في تطوير التدبير المحلي”.
كما كشف عزيز أخنوش، أن “قيادة الأحرار لمست من خلال هذه المداخلات والنقاش في جميع الجهات، حاجة المواطن الحقيقية للنقاش مع المسؤول السياسي، والتفاعل حول كيفية تدبير الشأن المحلي، وخصوصيات المشاكل التي تعيق التنمية والتدبير الجيد في كل مدينة”، معلنا أنه “وبفضل الخلاصات المنبثقة عن القافلة، ستتم تقاسمها في كتاب مسار المدن الذي سيستعرض ما قيل في كل مدينة، وكذلك بعض من شهادات وتجارب واقتراحات المواطنين للنهوض بمدنهم”.
وشدد الرئيس أن التجمع “دائما ما يؤمن بأن الاستماع والقرب هما أساس العمل السياسي، ومن أي موقع كان فيه، سواء في الجماعات الترابية أو في المجالس الإقليمية أوالجهوية أو في الحكومة، وغايته الدفاع عن إرادة المواطن، وعلى إشراكه في اتخاذ القرار وخلق التغيير”، معتبرا أن “مبادرة 100 يوم، 100 مدينة، تعد برنامجا تشاركيا أطلقه حزب التجمع الوطني للأحرار، بغرض الاستماع إلى آراء واقتراحات ساكنة المدن، خاصة الصغرى والمتوسطة، بخصوص مستقبل وأولويات مدنهم، وكذا للتعبير عن قناعة الحزب بضرورة إشراك المواطنين في اتخاذ القرار، والتشاور معهم بخصوص السياسات التي تهمهم”.
وأضاف رئيس الحزب أن “هذا البرنامج جاء كتأكيد على الإرادة الراسخة لدى الحزب، بإشراك القواعد في صياغة المقترحات والحلول، من خلال الاستماع للمواطنين، وفتح النقاش العمومي، ولإدراك الحزب العميق بأنه لا تنمية بدون إشراك السكان المحليين في اتخاذ القرار، وإبداء الرأي، وخلق التغيير المنشود، مرتكزا على تنظيم لقاءات بمختلف جهات المملكة، تشهد إشراك الحاضرين في هذه اللقاءات في ورشات تؤطرها قيادات الحزب الجهوية، من أجل تمكين المشاركين من الإدلاء بآرائهم بخصوص القضايا والانشغالات بمدنهم”.
في اعتقادنا أن حملة 100 يوم، 100 مدينة، تعيد النقاش السياسي، حول ما مدى نجاعة التواصل الحزبي مع المواطنين ببلادنا، بالنظر إلى الأدوار والمسؤوليات التي أناطها الدستور الجديد بالأحزاب المغربية وتحديدا من خلال الفصل السابع الذي جاء فيه: “تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية”.
وهو النقاش الذي نؤكد على انه مازال مستمرا إلى الآن، وتزداد حدته وأهميته أكثر عند اقتراب كل استحقاق انتخابي، فهو جدل سياسي يتكرر و يطرح عدة إشكاليات بخصوص نجاعة الممارسة السياسية في بلادنا والذي تبقى الأحزاب حجز الرواية فيها ومن مرتكزاتها الأساسية، خصوصا حين نرقب ونتتبع استمرار النسب المتدنية للمشاركة الفعلية للشباب وللمواطنين عموما، في الحياة السياسية وشيوع خطاب التيئيس والتبخيس، وهو معطى موضوعي يؤشر في اعتقادنا على استمرار وجود هوة عميقة بين الأحزاب والمواطنين، بفعل فقدان الثقة واعتزاز العلاقة التواصلية، ونتساءل نحن أيضا هل تراجع نسب المشاركة السياسية وليس الانتخابية فحسب، مرتبط بالوسائل التي تمتلكها الأحزاب أم بالممارسة ونوع الخطاب السياسي هل هو مؤثر أم لا؟.
في نظرنا العملية السياسية التواصلية هي سيرورة، وتراكمات لا يمكن أن نحكم على مدى نجاعة ونجاح التواصل السياسي من خلال أرقام فقط، ترتبط عند بعض الأحزاب السياسية في الفترات الانتخابية. إن التواصل السياسي فرض نفسه مع بروز الثورة الرقمية، حيث أصبحت نجاعته ضرورة يفرضها الواقع السياسي، ولن تتحقق هذه النجاعة إلا باستخدام سليم لكل الوسائل والامكانيات المالية والبشرية المرصودة.
وهنا ينبغي أن نعترف أن على الأحزاب السياسية ببدلانا، أن تطلق ورشات للتفكير، لتعمل على تقييم وتطوير خطابها التواصلي والسياسي، من أجل فتح شهية شريحة واسعة من المواطنين والشباب من أجل الانخراط في العمل السياسي الجاد والمثمر، بعيدا عن الريع التواصلي، لأنه لا يمكن في زمن ما بعد كورنا، أن نستمر في استعمال ذات الأدوات التقليدية والقديمة، لأنها أصبحت متجاوزة، فلا يمكن تشجيع الشباب وعموم المواطنات والمواطنين، على ممارسة السياسة والانخراط تنظيميا في الأحزاب، ونحن نرى أن بعض الوجوه السياسية من الحرس القديم، ليس لها من هم سوى كسب الأصوات الانتخابية، أو ربح المقاعد والبحث عن المكتسبات الشخصية، وليس تشجيع المواطنين الفاقدين للثقة، على ممارسة السياسة بنبل وأخلاق.
للأسف أن بعض الأحزاب هذه الأيام بدل أن تفتح نقاشا تحدد فيه من المسؤول عن فقد ثقة المغاربة في العمل السياسي، فقد آثرت أن تستمر في تحوير النقاش حول التعديلات التي من الممكن أن تمس بالقاسم الانتخابي، والذي قد يفقدها مقاعد انتخابية، ولا هم لها إن فقدت الثقة في المشهد السياسي برمته، لترمي بمستقبل البلاد في أتون الحيرة والتردد، والبؤس والتشاؤم.
قبل حوالي خمسة سنوات من الآن، قالها الملك محمد السادس حفظه الله، مدوية في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية التاسعة بمقر البرلمان، بتاريخ 9 أكتوبر 2015، حين قال لمثل هذا النوع من الأحزاب: “لقد سبق لي أن قلت لكم، من هذا المنبر، بأن الخطاب السياسي لا يرقى دائما إلى مستوى ما يتطلع إليه المواطن. وهنا أنبه إلى أن التوجه نحو الصراعات الهامشية يكون دائما على حساب القضايا الملحة والانشغالات الحقيقية للمواطنين، وهو ما يؤدي إلى عدم الرضى الشعبي على العمل السياسي بصفة عامة، ويجعل المواطن لا يهتم بالدور الحقيقي للبرلمان”.
حسب هذه الرؤية الملكية، فلا يمكن لنا إيجاد فعل سياسي ناجع، من دون وجود لغة تواصلية سياسية هادفة وجادة لأنها هي الوحيدة القادرة على بلورة معالم مشهد سياسي جديد، يصبح فيه الاهتمام بتأطير المواطنين والشباب على الخصوص، السمة البارزة لنجاح اي خطة تواصلية سيكون من ثمارها هو الدفع بتجويد العمل الحزبي و السياسي ببلادنا، خصوصا في ظل عدم وجود بنية منظمة وفاعلة ومحترفة داخل هذه المؤسسات الحزبية، تكون مسؤولة عن التواصل ودراسة التأثيرات الإيجابية المحتملة لكل حملة تواصلية، حتى تتجاوز الممارسات الحزبية الموسمية والتي عادة ما تكون مرتبطة بالفترات الانتخابية، وبالاشواط التسخينية عشية كل استحقاق انتخابي.
إن تحديات زمن ما بعد كورونا، يفرض على الأحزاب السياسية، أن تتملك آليات جديدة، وهي تدشن لحملاتها التواصلية، تتجاوز الخطاب التقليدي، لتتعداه إلى فتح قنوات أخرى التأطير والنقاش واقناع المواطنات والمواطنين بأهمية الانخراط في العمل السياسي، لأنه هو السبيل لإيصال اصواتهم وتحقيق مطالبهم، وأحلامهم وطموحاتهم في العيش الكريم الذي يضمن لهم كرامتهم ويحفزهم على العمل الجاد و العطاء، والنهوض بالوطن.