أعلن رشيد آكنجي عن تأسيس حزب جديد في تركيا بقيادته باسم «الحزب الديمقراطي الكردي» وقال إنه سيسير على نهج «القائد الكردي الخالد» مولا مصطفى بارزاني، نافياً تلقي أي دعم مالي من رئاسة إقليم كردستان في العراق. ورداً على سؤال عن اتهامات موجهة له بمحاولة تشكيل بديل عن حزب الشعوب الديمقراطي، قال آكنجي: «أقسم على القرآن الكريم بأنه لا علاقة لنا بهذه المزاعم».
ويتهم الحزب الناشئ بأنه محاولة لشق صفوف الحركة الكردية بحزب سيدعم «تحالف الجمهور» الحاكم، من خلال جمع البيئة الكردية المحافظة التي كانت تشكل، في سنوات سابقة، خزانا انتخابيا لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ثم تراجعت عن تأييده بعد حرب العام 2015 على المناطق والمدن الكردية في جنوب شرقي الأناضول.
يذكر أن الدستور التركي يحظر تأسيس أحزاب سياسية يتضمن اسمها صفات تتنافى مع الهوية التركية، ككلمة «الكردي» الواردة في اسم هذا الحزب. لكن وزارة الداخلية التي طالما شنت حملات اعتقال بحق كوادر حزب الشعوب الديمقراطي، وأطاحت برؤساء بلديات ينتمون إليه لتعين بدلاً منهم أشخاصاً يأتمرون بأوامر السلطة، لم تر بأساً في منح الترخيص لتأسيس «الحزب الديمقراطي الكردي» الأمر الذي عزز تلك الشكوك حول الحزب.
غير أن محاولة إعادة جذب الناخب الكردي لتأييد السلطة، لا تقتصر على إنشاء الحزب المذكور، بل كشفت وسائل الإعلام عن لقاء جمع، في مدينة ديار بكر، إحدى مستشارات الرئيس التركي مع شخصيات سياسية واجتماعية وثقافية وفعاليات تجارية كردية، فاستمعت إلى شكاواهم ومطالبهم وحاورتهم بشأن سبل العودة إلى سياسة الانفتاح تجاه كرد تركيا.
وقع خبر المستشارة الرئاسية وقع الصاعقة في الأوساط القومية المتشددة، وبخاصة حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي المتحالف مع الحزب الحاكم. فشن بهجلي هجوماً هو الأعنف ضد الحركة الكردية قال فيه: «يجب إتلاف جميع أعضاء حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي الإرهابيين»! ليس موقف بهجلي والتيار القومي الذي يمثله من الحركة الكردية والمطالب الكردية جديدأ، لكن هذا العنف اللفظي غير المسبوق هو ما يستدعي التوقف عنده. فمن الواضح أن هذا التصريح هو رد على الحوار غير الرسمي الذي باشرته المستشارة الرئاسية مع الفعاليات الكردية المذكورة في مدينة ديار بكر. وبهذا يكون عنوان الهجوم البهجلي هو القصر الرئاسي وليس «العمال الكردستاني» ولا واجهته السياسية «الشعوب الديمقراطي».
وسبق لبهجلي أن أطاح بمستشار رئاسي آخر، قبل أسابيع قليلة، هو بولند آرنج أحد القادة الثلاثة المؤسسين لحزب العدالة والتنمية، لأنه «اجتهد» في تفسير الدعاوى الإصلاحية لأردوغان بالقول إنها لا بد أن تشمل إطلاق سراح كلٍ من الرئيس السابق لـ«الشعوب الديمقراطي» صلاح الدين دمرتاش ورجل الأعمال الناشط في مجال المجتمع المدني عثمان كافالا المعتقلين منذ نحو أربع سنوات باتهامات وصفها آرنج بأنها «لا يمكن أن تقنع طفلاً». فشن بهجلي هجوماً حاداً ضد الرجل وجعل أردوغان يدفعه إلى الاستقالة من الهيئة الاستشارية.
ما يفهم من كلمة «الإصلاح» في الشروط الراهنة في تركيا هو تغييرات كبيرة لا يمكن للحليف القومي أن يرضى بها، لأن من شأن إصلاح النظام القضائي، مثلاً، أن يبعد أنصار بهجلي
إن مجموع الأحداث المهمة التي شهدها المشهد السياسي التركي منذ استقالة وزير المالية السابق برات آلبيرق، في أوائل شهر تشرين الثاني الماضي، تشير إلى الصراع الدائر داخل التحالف الحاكم بين أردوغان وبهجلي. فالأول الذي أقلقته نتائج استطلاعات الرأي الدورية التي تشير إلى تراجع شعبية الحزب والتحالف الحاكمين، والمتوجس من التغيير الذي جاءت به الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الشهر الماضي، ومن التشدد المحتمل لإدارة بايدن تجاه تركيا في مواضيع الخلاف العديدة بين البلدين، يبحث، كما يبدو، عن خيارات سياسية جديدة قد تشكل نهاية الطريق في تحالفه البراغماتي الطويل مع حزب الحركة القومية. العارفون بمنهج أردوغان في الحكم لا يستبعدون منه تغيير الوجهة مئة وثمانين درجة، إذا اقتضى الأمر، لضمان بقائه في السلطة، فلا شيء يمنعه من التخلص من تحالفه مع بهجلي إذا كان قد أطاح بكل رفاق دربه القدامى كعبد الله غل وأحمد داوود أوغلو وآخرهم بولند آرنج. ويدرك أردوغان أن أي انفتاح جديد على الكرد لا بد أن يدفع ببهجلي إلى الخروج من تحالف الجمهور والعودة إلى صفوف المعارضة، كما كانت حاله قبل خمس سنوات حين كان يطلق تصريحاته النارية ضد أردوغان ويطالبه «برأس» ابنه ليتوقف عن الهجوم عليه.
ولا تقتصر اعتراضات بهجلي على حليفه على الموضوع الكردي، بل تشمل أي محاولات إصلاحية في مجالات التشريع والقضاء والسياسة، ذلك أن ما يفهم من كلمة «الإصلاح» في الشروط الراهنة في تركيا هو تغييرات كبيرة لا يمكن للحليف القومي أن يرضى بها، لأن من شأن إصلاح النظام القضائي، مثلاً، أن يبعد أنصار بهجلي من الجسم القضائي، ومثله الإدارات العامة. ذلك أن ثمن تحالف الحزب القومي مع العدالة والتنمية كان تغلغل الأول في «الدولة» مقابل التخلي عن الحق في تقاسم الوزارات. بعبارة أخرى: لقد ملأت كوادر الحركة القومية الفراغ الذي نشأ في الدولة بعد تطهيرها من كوادر فتح الله غولن المتهم بقيادة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز 2016. أضف إلى ذلك أن الحزب القومي مهدد بالسقوط تحت سقف العشرة في المئة في أي انتخابات عامة قادمة، ما يحرمه من دخول البرلمان. يخشى بهجلي، أخيراً، أن يعمل أردوغان على العودة إلى النظام البرلماني إذا رأى أن احتمالات فوزه بفترة رئاسية جديدة باتت ضعيفة.
لهذه الأسباب استشرس بهجلي في مواجهة شعار الإصلاح الذي طرحه أردوغان في أعقاب استقالة صهره آلبيرق من منصبه كوزير للمالية، مع العلم أن المعارضة شككت بدورها في النوايا الإصلاحية المعلنة بدلالة استمرار السلطة في نهجها في التضييق على الحريات العامة بشتى الوسائل.
من جهة أخرى، يضاف تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي إلى انشقاقات أخرى حدثت في أحزاب المعارضة، وكلها في توقيت متقارب: كانشقاق محرم إينجة عن حزب الشعب الجمهوري تمهيداً لترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية القادمة، وانشقاق أوميد بوزداغ من الحزب الخيّر، ومصطفى ساري غل من حزب الشعب الجمهوري.
إذا كنت لا تستطيع أن تزداد قوة، فاجعل الخصم يزداد ضعفاً.
بكر صدقي ، كاتب سوري