كلما اقتربت مواعيد الانتخابات في المغرب كثر الحديث والكلام عن العزوف الانتخابي. العزوف يسبب قلقا مستمرا للمسؤولين في البلاد وللأحزاب السياسية المشاركة في اللعبة الديمقراطية. بل بلغ الأمر مرة بأحد قادة الأحزاب أن طالب بفرض عقوبات مالية ضد من ينأون بأنفسهم عن الذهاب إلى مكاتب الاقتراع، واقترح إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مبلغ 500 درهم عقوبة مالية لــ “المتهرب” من التصويت.
لكن جميع الأساليب التي جربت حتى اليوم لإقناع المواطنين بضرورة التراجع عن عزوفهم الانتخابي فشلت، وهي أساليب متشابهة شكلا ومضمونا. كما أن المرشحين الذين يقدمون رشاوى للناخبين من أجل كسب أصواتهم يفاجأون بأن فلوسهم ذهبت سدى، فالناس تأخذ الفلوس ولا تفي بالتزامها بأنهم سيصوتون لمن منحهم الورقة “الزرقاء”، ويسمونها “الزَّرْقلافْ”، وهي الورقة النقدية من فئة 200 درهم . علما أن بورصة الرشوة الانتخابية تتفاوت بين مرشح وآخر. وضمن هذا الإطار تروج بين المواطنين قصص وحكايات ونكت وتعابير زجلية مع رسومات تسخر من الانتخابات ومن الأحزاب ومن مرشحيها الانتهازيين.
بعض الاشخاص تشجع الناخبين على أخذ “الزَّرْقلافْ” والأكل في الولائم الانتخابية التي يفوق بذخها أعراس الأغنياء، ويقترحون عليهم معاقبة المرشحين الانتهازيين، من يستصغرون الشعب البسيط ويستغلون فقره وحاجته، مستهدفين بطنه:
“- أينما وجدتهم الوليمة والورقة النقدية لا تتردوا في قبولها، لكن لا تنسوا التصويت على شعارنا الانتخابي”…
أو تجد مرشحين في نهاية الولائم الانتخابية يحجزون ضيوفهم لحلف اليمين، وإلزام الناخب المرتشي أداء القسم على المصحف:
“- لا تنسوا أنكم أديتم القسم وستحاسبون غدا أمام الله عز وجل إذا لم تفوا بالعهد. إن حبات الطعام الذي قدمناه لكم ستقف في مفاصل ركبكم”.
بمثل هذا الأسلوب المضلل قد يضمنون الولاء الانتخابي، خاصة أن الوازع الديني منتشر بشدة وبشكل واسع بين الطبقات الشعبية الفقيرة.
غياب الإبداع السياسي:
ليس هناك إبداع وتجديد في اللعبة الديمقراطية، التي أساسها الانتخابات. نفس الشعارات والوجوه ذاتها، ونفس اللغة والمفردات والقاموس. لذلك لا غرابة إذا أجابك من التقيهم وسألتهم عن رأيهم بصدد الانتخابات من دون تردد وبيقينية بأنهم سوف لن يذهبوا لمكاتب التصويت يوم الاقتراع.
ومن التعابير التي تتداول بين المواطنين:
(- زهقنا من هذه اللعبة الممجوجة. إن المرشحين يعدون ولا يفون. منذ عقود ونحن هنا نتابع كيف اغتنى أكثر من منتخب مر علينا على حسابنا. كلهم كذابون وانتهازيون…).
وسيعترف لك عدد آخر من الشباب والكهول بأنهم لم يذهبوا مرة في حياتهم للمشاركة في الانتخابات.
أما مواطن (54 سنة)، وهو سائق طاكسي بالدار البيضاء، فتطلع مليا إلى الزبون الجالس جنبه في المقعد الأمامي قبل أن يجيبه على سؤاله:
“- لم يسبق لي أن شاركت في الانتخابات إلا مرة واحدة ولن أكررها. وكانت لما وثقت بغباء في الخطاب الإسلامي لحزب العدالة والتنمية، لكن خاب الأمل مما رأيناه من هذا الحزب الذي افترسنا بخطاب ديني، يبدو لي أنهم فعلوا بنا ما هو أفظع وأخطر مما فعلته باقي الأحزاب عبر العقود والأعوام”. ويزكي أستاذ بالتعليم الثانوي، رأي السائق:
“لقد نجح كثير من قادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي بممارساتهم في البروز كأشخاص فاسدين سياسيا وأخلاقيا، ناهيك عن عدم درايتهم بالتسيير وإدارة شؤون السياسية والاقتصادية للبلد”.
فشل الأحزاب من فشل النموذج التنموي:
لكن الأحزاب السياسية ماضية في حملتها الدعائية لحث الناس على التسجيل في القوائم الانتخابية، وتتسابق في حملات سابقة لأوانها، ورهانها الظاهر منكب على استقطاب العازفين، خصوصا من فئات الشباب للمشاركة في الانتخابات، الذين تتزايد أعدادهم باضطراد وصاروا يمثلون نسبة 40 في المئة من الكتلة الناخبة.
لذلك سبق لجلالة الملك محمد السادس أن أشار إلى أن الأحزاب غدت “عقيمة وغير قادرة على إنتاج نخب وبرامج”. قبل أن يعلن عن فشل النموذج التنموي في البلاد، وهو فشل يعني وفي السياق فشل الأحزاب أيضا، لكن هاته الأحزاب التي صفقت طويلا للخطاب الملكي، نسيت أن تدرك أنها ليست في موقف يمنحها مهمة التقييم والتصفيق. فالمشهد الحزبي منخور ويزداد تآكلا من الداخل، كما أفصح مرة نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية.
اتساع الفجوات:
ما أن أطلت مواعيد الانتخابات التي ستجرى بعد أيام (شتنبر 2021)، حتى انطلق السباق المحموم بين الهيئات الحزبية، وانتعش سوق “الترحال السياسي” بانتقال عدد من المنتخبين إلى أحزاب أخرى للترشح باسمها بدل أحزابهم الأولى التي سبق لهم الفوز باسمها في الانتخابات الماضية. كما انتعشت بورصة منح “التزكيات” بحثا عن كائنات انتخابية، مواصافاتها من الأعيان النافذين ومن الأثرياء ورجال أعمال، دون أية مراعاة لقواعد أخلاقية تستند على أسس الكفاءة والشفافية والمصداقية والنزاهة. ولا مجال للاستثناءات هنا، لقد أضحت أحزاب اليسار لا تختلف عن أحزاب اليمين، بعد أن تم إفراغ الشعارات النضالية من مضامينها، ليتحول المشهد السياسي إلى ما هو عليه اليوم من تشويه ومسخ. وبالتالي اتسعت الفجوة ما بين الأحزاب والمواطنين، وفي مقدمتهم فئات الشباب. وهي فجوة سياسية أكبر وأعمق لكون الأحزاب جزء من النظام. وهذا هو الأخطر. لذلك سيتواصل الغضب والاستياء الشعبي من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدنية. وسيستمر انتشار نعت الأحزاب بــ”الدكاكين السياسية” التي يسعى أصحابها إلى الاغتناء غير المشروع، وإلى سلطة المجالس الاستشارية والبرلمانية والوزارية بمباركة من النظام وبرضاه.
تين وزعتر…!:
في الأسبوع الماضي خرج مسؤول كبير في الدولة، هو عبد اللطيف الجواهري والي (مدير) بنك المغرب بتصريح مثير خلال مؤتمر صحافي ردا على سؤال: لماذا فقد المواطنون الثقة في السياسيين؟ فهاجم فيه الأحزاب، واصفا إياها بــ”الباكور والزعتر”. (التين والزعتر). ما جعل الأحزاب الرئيسية تبدي استغرابها وتستبعد الجواهري عن الخوض في قضايا سياسية، وبكون تدخلة يساهم في تقوية العزوف الانتخابي، و”يزرع التشكيك في عمل الهيئات السياسية وقدرتها على أداء مهامها كاملة”، وفق ما جاء في تنديد حزب التجمع الوطني للأحرار.
في المقابل لقيت تصريحات عبد اللطيف الجواهري استقبالا حسنا من القواعد الشعبية ونشطاء مواقع التواصل، بل إن أحدهم احتج على تشبيه الجواهري، وطالبه بالاعتذار للتين وللزعتر.
انفراط عقد اليسار:
قبل أشهر من الانتخابات، اتهم عضو قيادي في الاتحاد الاشتراكي هو حسن نجمي، إدريس لشكر المسؤول الأول في الحزب بالمتاجرة في تزكيات الترشيح للانتخابات، وبكون “الاتحاد يطرد ويهمش المثقفين، وفي الآن ذاته يحتضن الانتهازيين والوصوليين والمنافقين”. معتبرا أن “خطاب الاتحاد في عهد إدريس لشكر صار يتماهى مع خطاب الدولة تماما، ولم يعد في خطابه ما يميزه. وهذا الأمر بات عاما في المشهد السياسي المغربي ومشكلته أنه يمس بنبل ومصداقية ونزاهة العمل السياسي في بلادنا”. لذلك بعد صعود إدريس لشكر إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي كف العديد من المتتبعين والمحللين السياسيين على اعتبار الاتحاد الاشتراكي ضمن صفوف أحزاب اليسار.
لكن بعض الأمل لدى جزء كبير من المتعاطفين مع اليسار، ظل قائما مع “فيدرالية اليسار الديمقراطي”، وهو تحالف ثلاثي لأحزاب معارضة، ذات منشأ بيولوجي واحد (تقريبا) من صلب الاتحاد الوطني/ الاشتراكي للقوات الشعبية (الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي). وكان المرتقب أن يتقدم التحالف بلوائح موحدة في الانتخابات، قبل أن تفاجئ د. نبيلة منيب، الأمينة العامة للاشتراكي الموحد، الرأي العام بسحب توقيع حزبها من الاتفاق المشترك لخوض غمار الاستحقاقات الانتخابية من داخل تحالف الأحزاب اليسارية الثلاثة.
قرار وصف بالانفرادي، وقوبل بالرفض من قياديين بارزين في الاشتراكي الموحد. لكون منيب بقرارها “تهدم ما تم تحقيقها طيلة السنوات الماضية، وكان الهدف منه الاندماج بين الأحزاب الثلاثة في حزب يساري واحد”.
ويأتي هذا الخبر في خضم صراعات داخلية وسط الاشتراكي الموحد، كما يتزامن مع إصدار نداء أطلقه رحمان النوضة وعبد الغني القباج (معتقلان سياسيان سابقا من اليسار السبعيني)، وحصل على مجموعة من الإمضاءات، حيث دعا “النداء” إلى تجديد قيادات قوى اليسار، طبقا لقوانين مؤتمراتها الداخلية. إذ أن “كثيرا من المناضلين أصبح اقتناعهم يزداد يوما بعد يوم بأن مستوى بعض قيادات قوى اليسار غير مرض”.
الخلاصة هي أن لا جديد في الساحة المشهدية للحياة الحزبية في المغرب. انتخابات تمضي وأخرى تأتي، ووجوه سياسية وكائنات انتخابية تتكرر وعزوف مستمر، ولا شيء يتغير في الأفق السياسي لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبالتالي تستمر حالة الجمود الانتخابي منذرة بتعمق الأزمة أكثر.