بعدما معركة وادي اللبن التي قضت على الحلم العثماني باستعمار المغرب في مارس وأبريل سنة 1558 م بمنطقة تيسة (إقليم تاونات -حاليا ) شمال مدينة فاس بين الشرفاء السعديين بقيادة عبد الله الغالب والقوات العثمانية تحت قيادة حسن باشا بن خير الدين بربروسا ، عندما تولى عبد الله الغالب (رابع سلطان سعدي) حكم البلاد بعد اغتيال والده السلطان محمد الشيخ الذي رفض مبايعة سليمان القانوني ، ثم تعليق رأسه على أسوار إسطنبول سنة 1557 ليكون عبرة لغيره ، واصل عبد الله الغالب سياسة أبيه في مواجهة الدولة العثمانية، فرفض بيعة العثمانين الذين أداروا ظهورهم لأوروبا النصرانية ، واتجهوا إلى مد نفوذهم في البلدان المسلمة .
كانت مخططات السلطان العثماني كفيلة بسقوط المغرب في يد الأوروبيين كما سقطت الأندلس من قبل ، نظرا لصراعهم مع الدولة التاريخية المغربية ، ومحاولة الدول الصليبية استغلال ذلك لاحتلال المغرب تدريجيا ، نظرا لموقعه المهم الذي يشكل حلقة وصل بين منطقة الساحل والصحراء الغنية بالذهب وبين أوروبا ، مما حتم على السلطان السعدي اتباع سياسة ذكية لفرض توازن جيوستراتيجي في المنطقة بين القوى العظمى ، تميزت هذه السياسة باستغلال جميع التناقضات الدولية والتنافس الإستعماري في المنطقة لخدمة الطموحات المغربية بالحفاظ على استقلال الإمبراطورية السعدية ، كما هو مبين في إحدى الصور المرفقة في الأسفل .
كان العثمانيون في صراع مع الإيبيريين ، و يطمعون معا للإستيلاء على المغرب ، وكان الإيبيريون وفرنسا و إنجلترا وهولاندا في حالة من الصراع والمنافسة ، بينما كان العثمانيون في حالة صداقة وتوافق مع كل من فرنسا و إنجلترا و هولاندا ، لأن صراعهم من الإيبيريين حول المنطقة جعلهم يعقدون صلحا وتوافقا مع الدول الأوروبية الأخرى المذكورة .
أمام هذا الوضع عمل السعديون في المغرب على استخدام الدهاء السياسي بدلا من القوة العسكرية وحدها التي تميز بها المرابطون والموحدون من قبل لضمان نوع من توازن الرعب في المنطقة بين القوى الدولية المختلفة ، حتى لا تميل الكفة لأحد منهم ، مما يشكل خطرا على الإمبراطورية المغربية الشريفة .
هذه السياسة نفسها عمل بها العثمانيون أيضا في تعاملهم مع الوضع الدولي آنذاك ، فعقدوا تحالفات دولية مع قوى أوروبية على حساب قوى أوروبية أخرى والمغرب ، وكذلك الأوروبيون على اختلافهم عقدوا صلحا مع المغاربة أو العثمانيين ، وتواجهوا فيما بينهم نظرا للمنافسة الشرسة بينهم ، فهل حلال على العثمانيين عقد صلح مع دول للتفرغ لقتال دول أخرى ولا يحل للسعديين اتباع نفس الإستراتيجية للحفاظ على استقلالهم في ظل المنافسة الدولية الشرسة لاحتلال بلادهم ؟
يقول المؤرخ الأكاديمي د. محمد نبيل ملين متحدثا عن العلاقة المغربية العثمانية غير الثابتة : { اعتمد عبد الله الغالب سياسة يمكن تسميتها بسياسة الدوائر الثلاث ، فلمواجهة الهيمنة العثمانية على المنطقة مارس السلطان سياسة مصالحة و مسالمة تجاه القوتين الإيبيريتين وخاصة تجاه إسبانيا ، ولمواجهة هذه الأخيرة عقد علاقات ثابتة ودائمة مع إنجلترا و فرنسا العدوتان التقليديتان لآل هابسبورك اللذان يعرضان الهيمنة الإسبانية في أوروبا والمحيط الأطلسي . ولخلط أوراق القوى الأوروبية حاول السلطان الشريف انتهاج سياسة تهدئة تجاه العثمانيين ، وذلك باستئناف علاقات شبة طبيعية معهم .
كان لا ستيلاء العثمانيين على حجر بادس الذي سرعان ما تحول إلى وكر للقراصنة و قاعدة أمامية لغزو المغرب أمرا مقلقا لمدريد ومراكش ، فوقع تقارب بين العاصمتين } 1 .
ساهمت علاقات المغربية الإسبانية آنذاك في عهد عبد الله الغالب من السماح بإخراج بقية الموريسكيين – وهم الاغلبية – من الأندلس للإستيطان في المغرب بعد فشل ثورتهم عام 1570 ، حيث كانوا معرضين للإبادة من قبل الإسبان لانهم يشكلون تهديدا داخليا لها ، يقول د . محمد ملين متحدثا عن العلاقات المغربية الإسبانية بعد إنتفاضة الأندلسيين الموريسكيين ضد الإحتلال الإسباني عام 1568 م : { استفاد عبد الله الغالب من هذه الإنتفاضة على أكثر من صعيد ، فقد تخلص من الضغط الإسباني على السواحل المغربية وحصل على دعمهم ضد أي تدخل عثماني ولو إلى حين ، لكن أهم مكاسبه تجلى في تمكنه من أقناع السلطات الإسبانية من طرد آلاف الأندلسيين إلى بلاده ، إذ كان يعول على خبرة هذه الجماعة في المجالين الإقتصادي والثقافي من أجل إثراء بلاده وبيت ماله }2 .
بعد عبد الله الغالب انتهج باقي الخلفاء السعديين نفس الإستراتيجية للحفاظ على استقلالهم ، حيث أوقفوا الزحف العثماني تجاه المغرب ، وقضوا على الإمبراطورية البرتغالية في معركة وادي المخازن ، فكانوا بذلك الدرع الواقي الذي قام بتحصين العثمانيين من الزحف الصليبي نحوهم ، ولو انتصر البرتغاليون في تلك المعركة لقاموا بالزحف نحو الجزائر العاصمة ثم تونس .
لو كان السعديون صليبيين حقا لتحالفوا مع الإسبان عسكريا ، ولفرضوا حصار بحريا و بريا على العثمانيين ، ولتوجهت قواتهم المشتركة لشمال افريقيا ، لكن السعديين استفادوا من كل القوى الأوروبية ( فرنسا + هولاندا + فرنسا + إلإيبيريين ) والعثمانية ، و استغلوا الخلافات بينهم للحفاظ على استقلال المغرب .
………………………………………………………
📒1 السلطان الشريف : الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب ص 45 و 46 .
📒2 نفس المرجع ص 47 .