معلوم لدى القاصي و الداني ، ماتشهده الديار الإسلامية من انتشار لفكر التكفير ، والذي أصبح قنبلة موقوتة خربت بسببه الأوطان واستحلت الدماء المعصومة و انتهكت الأعراض ، و إن دافع إلى تبني الخوارج قديما و حديثا لهذا المنهج التخريبي المدمر ، هو تشبثهم بالفهم الحرفي الظاهر لبعض النصوص ، دون الرجوع إلى فهم السلف و العلماء الراسخين لها ، ومن هذه النصوص قوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ، والتي جعلها الحرورية قديما مسوغا لتكفير كثير من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على رأسهم علي بن أبي طالب – رضوان الله عليه – ، ومع الأسف فقد جعلها التكفيريون في عصرنا الحالي أيضا مستندا يتكئون عليه لتكفير كل الحكام في الديار الإسلام ، الذين يحكمون بالقوانين الوضعية دون جحود بأحكام الشريعة ، حتى أصبح هذا الفهم الأعوج للآية شعارا يتميز به الخوارج التكفيريون قديما وحديثا .
قال القرطبي المالكي في “المفهم” (5/118) بعد أن نسب القول بظاهر هذه الآية للخوارج التكفيريين : “ومقصود هذا البحث أن هذه الآيات المراد بِهَا أهل الكفر والعناد، وأنَّهَا وإن كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأن ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يغفر، والكفر لا يغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفرًا”.
وقال أبو المظفر السمعاني “في تفسيره” (2/42): “واعلم أن الخوارج يستدلون بِهَذه الآية، ويقولون: من لَمْ يحكم بما أنزل الله فهو كافر. وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم”.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر المالكي “في التمهيد” (17/16): “وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فاحتجوا… من كتاب الله تعالى بآيات ليست على ظاهرها، مثل قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}”.
وإن الناظر في في هذه الآية الكريمة يجدها قد جاءت في ثلاث ألفاظ وهي :{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[المائدة:44] ، وكذلك : ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[المائدة:45] ، و أيضا :{ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[المائدة: 47] ، وقبل أن نبرز الفهم السليم للآيات ، لابد أن نشير إلى عدة نقاط :
أولا : لقد اتفق العلماء على تكفير من جحد حكمًا ظاهرًا ثابتًا بنص قطعي ، و على كفر من رأى في تشريعات الناس على أنها أصلح وأفضل من حكم الله تعالى .
ثانيا : اختلف العلماء في فهم الآيات السابقة ، حيث ذهب جماعة من بينهم ابن عباس وعكرمة وقتاد وغيرهم إلى تخصيصها بأهل الكتاب من اليهود و النصارى ، ولقد ذهب أصحاب الرأي الثاني من أهل السنة و الجماعة ، إلى كونها تشير إلى الكفر و الفسق و الظلم غير المخرج من الملة لمن أنكر غير شرع الله بقلبه ،لأن من أقر في قلبه بأفضلية حكم الله و جاء بخلافه ولم يستحله ، فلا يشمله الكفر الأكبر المخرج من الملة ، وبه قال ابن عباس وابن عبد البر، وأبي بكر بن العربي، والقرطبي ، وأبي المظفر السمعاني، والبغوي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وابن جرير الطبري و الذهبي، والحافظ ابن كثير ، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، ومحمد الأمين الشنقيطي و الالباني و ابن عثيمين و ابن باز و ربيع المدخلي و الفوزان وغيرهم.
ثالثا : إن الناظر في الآيات السابقة ، يظهر له بجلاء الوصف الأول لمن يحكم بما أنزل الله وهو الكفر ، و الثاني هو الظلم ، والثالث هو الفسق ، مما يعني أن كل آيه مخصصة لحالة معينة ، و أن هؤلاء الغلاة من التكفيريين الذين أنزلوا التكفير عل كل حكام المسلمين ، إنما تشبثوا بالظن فقط الذي لا تبنى عليه أحكام التكفير ، ولم يراعوا فهم السلف لها ، ولم يجمعوا كل الآيات الواردة في نفس سياقها حتى يزول عنهم الإشكال .
رابعا : صح عن ابن عباس أنه فسر الكفر في الآية بقوله :” كفر دون كفر ” ، قال الإمام الألباني في الصحيحة (6/113) : { كفر دون كفر } صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم .. اهـ.
ولقد صح بالمعنى أيضا عن هذا الصحابي الجليل أنه فسر الآية بقوله ( ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه ) أي الخوارج ، وله شواهد أخرى تقويه .
وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال:” ليس الكفر الذي تذهبون إليه” ، رواه عنه ابن أبي حاتم، والحاكم, وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، قاله ابن كثير.
ومن خلال ما سبق ، فإن من غلبه هواه فحكم بغير الشرع مع اعترافه بالحق، أو كان مكرها على ذلك فهو مخطئ آثم, ولا يخرج عن الملة ،.
وعلاوة على ذلك ، فإن الخوارج على مر العصور كالحرورية و الصفرية و داعش و القاعدة وغيرهم ، لا يفرقون بين التكفير المطلق والتكفير المعين ، والفرق بينهما في أن :
- التكفير المطلق : هو تنزيل الحكم على الفعل لا الفاعل ، فيقال من قال كذا كفر أو من فعل كذا كفر ، دون تنزيله على المعين .
- التكفير المعين : هو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل الكفر أو قاله بعد إقامة الحجة عليه و توفر شروط التكفير فيه و انتفاء الموانع .
أما شروط تنزيل التكفير على المعين عند أهل السنة و الجماعة المتبعين لعقيدة الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه و الأئمة في القرون المشهود لها بالخيرية .
1- شروط في الفاعل : وذلك بأن يكون عاقلا بالغا مميزا ، و متعمدا لفعل الكفر أو قائلا به عن محض إرادته دون إكراه ومختارا له .
2-شروط في الفعل أو القول المكفر : وذلك بأن يكون هذا الفعل أو القول ثبت بالأدلة أنه مخرج من الملة و كفرا أكبر أو شركا أكبر ، مع كون هذا القول أو الفعل المكفر صريحا، و قطعي الدلالة على الكفر، وليس محتملا .
3- إقامة الحجة .
4 – إنتفاء مانع التكفير في حقه كالجهل و النسيان و التأويل و الإكراه و الخطأ غير العمد.
وبسبب الجهل بهذه الفروق في التكفير ضل أقوام من الناس ، وبرز منهج الغلو في التكفير في عصرنا الحالي ، الذي قل فيه المشتغلون بالعلم الشرعي، و تميز بحشر الرويبضة لأنوفهم في مسائل ديننا الحنيف الدقيقة ، وأيضا انتشار الفتاوى الضالة بسبب الثورة الرقيمية و المعلوماتية .