يعد السلطان المغربي سيدي محمد بن عبد الله العلوي – رحمه الله – المزداد عام 1134هجرية الموافق ل 1710 م و المتوفى عام 1204 هجرية الموافق 1790 م ، من أعظم سلاطين الدولة العلوية الشريفة ، فهو الذي استرجع الثغور وحصن الشواطئ، و قمع جشع الدول الاستعمارية وطمعها في خيرات المغرب، و استطاع أن يستعيد مازاغان من أيدي البرتغاليين سنة 1182/1768م، حيث جهز قوة ضخمة لاستعادة هذا الميناء، وفتح البريجة سنة 1183هـ/1769 وأخرج البرتغاليين منها وهدمها ، وبنى وأسس مدينة الصويرة ، و قد حكم ثلاثا وثلاثين سنة هجرية تعتبر من أحسن سنوات هذه الدولة قبل الاحتلال الفرنسي ، و مجددا لمعالم دولة عصرية، وباعثا لنهضتها العلمية والإصلاحية والفكرية الشاملة، فاستحق بذلك لقب “سلطان العلماء وعالم السلاطين”.
لقد شهدت فترة حكم السلطان محمد الثالث ثورة علمية في العقيدة و الفقه و الحديث ، حيث كان هو بنفسه رائدها و محفزها و المقيم عليها ، لهذا إرتأيت أن أخصص لهذه الشخصية السياسية و العلمية ثلاث مقالات للتعريف بجهودها في الإصلاح الديني بالمغرب ، و سأكتفي بهذا المقال بالحديث عن معالم تجديده لعلم العقيدة في المغرب .
☆ أولا / عقيدة السلطان سيدي محمد بن عبد الله :
يعلم كل مشتغل بتاريخ المغرب بأن المغاربة في عهد المرابطين ، كانوا في الجملة على عقيدة السلف الصالح من ضمنهم إمامنا مالك بن أنس – رحمه الله – ، و لم تنتشر العقيدة الأشعرية في صفوف أهل المغرب إلا بقوة السلطان و السلاح على يد الموحدين ، ولا زال يتخبط كثير من فقهائهم فيها إلى يومنا هذا ، لكن الله وفق هذا السلطان المصلح لفسادها ، فاتخذ منها موقفا حازما ، ونصر عقيدة المتقدمين من المالكية ، و كان يوصي بعقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني – رحمه الله – الملائمة للفطرة ، ويصدر بها بعض كتبه ، ويصرح بأنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا لإظهار مخالفته للعلماء المتأخرين من المغاربة ، وينهى عن عقيدة الأشاعرة و تعقيداتها الفلسفية التي تمجها النفوس السوية ، و إليكم شهادات بعض العلماء المغاربة في هذا السلطان المصلح :
1)- قال الوزير والمستشار الملكي الأسبق الأستاذ عبد الهادي بوطالب – رحمه الله – :
” لقد كان بحق سلفيا كبيرا يقول عن نفسه أنه مالكي مذهبا ، حنبلي اعتقادا ، ولهذا نهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية،وكان يحض على الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل طبقا لمذهب السلف” .
وقال : “كان السلطان محمد بن عبد الله أحد العلماء المصلحين الذين انبروا لإرساء القواعد السلفية في المغرب ” [1 ].
2)- قال العلامة محمد تقي الدين الهلالي المغربي – رحمه الله – عن العقيدة الأشعرية في المغرب و تفطن هذا السلطان السلفي لفسادها :
” ولم ينتبه أحد من الملوك إلى فسادها حتى جاء سيدي محمد بن عبد الله بن اسماعیل رحمهم الله، وهو ملك علماء هذه الدولة وعالم ملوكها، فكان يجمع العلماء ويدارسهم الكتب فبدا له فساد العقيدة التومرتية فأعلن رجوعه عنها. وقد كان سروري عظيما حين قرأت الكتاب الذي ألفه هذا الملك العالم وجعله محاذيا لرسالة ابن أبي زيد القيرواني ؛ فإنه قال في أوله: محمد بن عبد الله المالكي مذهبا الحنبلي عقيدة، فلما قرأت لفظ الحنبلي عقيدة بدت لي فيها معان واسعة يستغرق بسطها مجلدا كاملا.
وعلمت أن هذا الإمام اهتدى بدقيق علمه ونفوذ بصیرته وواسع اطلاعه إلى ما أصاب العقيدة المغربية على يد ابن تومرت فعزم على إصلاحها، وبدأ بنفسه فلم يرض أن يقول الأشعري عقيدة كما يقوله المؤلفون المغاربة الذين جاءوا بعد ابن تومرت؛ بل انتسب إلى أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة الصابر على المحنة، الذي حفظ الله به عقيدة أهل السنة من الزيغ الذي هم المأمون العباسي أن يدخله عليها. فإن قلت: وهل كان أبو الحسن الأشعري ضالا في عقيدته حتى رغب هذا الملك العالم عن الانتساب إليه وخالف ما هو شائع ذائع في علماء مملكته في وقته وقبله بكثير؟ فالجواب أن أبا الحسن رحمه الله كان ضالا في العقيدة، ثم اهتدى إلى عقيدة السلف ءاخر الأمر كما بينه في كتابه “الإبانة في أصول الديانة”، طبع في حيدر أباد دكر، بالهند وبينه كذلك في كتابه “مقالات الإسلاميين”، طبع في اسطنبول وبينه الإمام ابن عساكر في كتابه “تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري” طبع في دمشق. وقد انتسب أبو الحسن الأشعري نفسه إلى أحمد بن حنبل في كتاب الإبانة. ولما كان الاشعرية فرقتين: إحداهما تتبع أبا الحسن الأشعري في عقيدته التي رجع إليها ومات عليها، والأخرى تتبع عقيدته الأولى التي رجع عنها، وكلتاهما تنسبان إليه. امتنع الإمام محمد بن عبد الله العلوي رحمه الله من الانتساب إلى أبي الحسن الأشعري وانتسب إلى أحمد بن حنبل حتى لا يظن به أنه من الفرقة الأشعرية الثانية”[ 2].
و قال أيضا الشيخ العلامة محمد تقي الدين الهلالي – رحمه الله – في مقال آخر في معرض حديثه عن عقيدة هذا الإمام :
“اعلم أيها القارئ الكريم أن أهل المغرب كانوا على عقيدة السلف حتى جاء محمد المهدي ابن تومرت الذي بنيت الدولة الموحدية على مذهبه، فدعا الناس إلى ترك عقيدة السلف والتمسك بعقيدة المتأخرين الذين ينفون بعض صفات الله تعالى أو يتأولونها تأويلا باطلا، ونجح في دعوته فعم ظلام بدعة علم الكلام في جميع أرجاء المغرب وألف ما يسمى بست وستين عقيدة بالعربية للمتكلمين بها وبالبربرية للقبائل التي لا تحسن العربية، وشاع القول بأن من لا يعرف هذه العقيدة فهو مقلد في الاعتقاد، والراجح عندهم أنه كافر كما بين ذلك السنوسي في عقائده الثلاث وغيره. وبقي الناس على ذلك إلا من رحمهم الله تعالى حتى جاء الإمام الملك الهمام محمد بن عبد الله رحمه الله تعالى فأنكر هذه العقيدة وهي تدرس في كل مدرسة وكل مسجد، ولم يكن أحد في زمانه يتجرأ على إنكارها. وما أشار إليه مؤلف كتاب الاستقصا من أن أولئك العلماء الذين انتخبهم السلطان محمد بن عبد الله كانوا يساعدونه ويؤلفون له الكتب، يحتاج إلى بيان فإنهم لم يكونوا يعلمونه شيئا يجهله ولم يكونوا أساتذته في هذه المنقبة بل كانوا تلاميذه وكتابا له، لم يقم بهذا الإصلاح قبله أحد في زمانه وقبله بمئات السنين لا هم ولا غيرهم (………..) .
إن الإمام محمد بن عبد الله العلوي ناقد بصير بذل جهده أثابه الله رضوانه ليخرج الناس من ظلمات علم الكلام الذي شاع في المغرب، لكن من سوء الحظ أنه لم يستجب لدعوته إلا القليل(……..).
إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين من أصحاب مالك وغيرهم يمرون آيات الصفات وأحاديثها على ما تفهم العرب في كلامها على ظواهرها من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل، وعلمت أن الإمام محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي رحمه الله تصدى لإصلاح عظيم وهو إصلاح العقيدة التي ينبني عليها دين المؤمن وسائر أعماله ” [3] .
وقال أيضا في مقال آخر أثناء حديثه عن افتتاح دار الحديث الحسنية من قبل الملك الحسن الثاني – رحمه الله – بهدف إحياء علم الحديث في بلاد المغرب الإسلامي :
” فإن مجالس أسلافه الأكرمين كانت مدارس حديث طول أعمارهم، بل ظهر منهم أئمة في الحديث، كسيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل الذي صنف في هذا العلم وانتسب إلى أهله ونصره نصرا مؤزرا، ولم تشغله الفتن التي كانت منتشرة في زمانه، والدسائس في الداخل والخارج عن رفع لواء علم الحديث والمجاهرة بترك العقيدة الأشعرية والانتساب إلى عقيدة أهل الحديث. وليس المراد بالعقيدة الأشعرية، عقيدة أبي الحسن الأشعري نفسه، فإن عقيدته هي عقيدة جميع السلف ولم يفارقها سيدي محمد بن عبد الله، وإنما فارق العقيدة المنسوبة إليه الشائعة عند المغاربة. ومن ارتاب في اختلاف هذه العقيدة المنسوبة إليه مع عقيدته الحقيقية، فليقرأ كتابه (مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين) طبع في إسطنبول، وكتابه الإبانة، في أصول الديانة، طبع في دمشق. وكتاب تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، للحافظ بن عساكر، طبع في دمشق. فقراءة واحد من هذه الكتب تجلو غمام الشك والارتياب، وتكشف عن وجه الحقيقة النقاب” [4] .
3)- قال العلامة الأديب عبد الله كنون المغربي – رحمه الله – :
” وعرفنا السلطان سيدي محمد بن عبد الله يقوم بإصلاحات عظيمة في مناهج الدراسة العلمية بالقرويين ، وفي القوانين المدنية ، ومن أهم ذلك الدعوة إلى إحياء كتب السنة والأخذ بها ، ونصرة# العقيدة السلفية وإقرار الصفات والمتشابه* على ماورد من غير تأويل مع التنزيه ، وجاء بعده ولده السلطان مولاي سليمان فشدد الإنكار على أهل البدع والطوائف الضالة ، ونشر خطبته المشهورة في ذلك “[5] .
* قلت ( بلال ) : صفات الباري سبحانه وتعالي في معناها من المحكمات وليست من المتشابهات ، وفي كنهها وكيفيتها تعد من المتشابهات التي إستأثر الله بعلمها ، وقول الشيخ عبد الله كنون أنها من المتشابه دون تفصيل فيه نظر ، والله أعلم .
4)- قال الوزير العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي – رحمه الله- :
“… وبالجملة، فقد كان قريبا من درر هذه الدولة الفاخرة وأنجمها الزاهرة، وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة، كما صرح بذلك في تآليفه”[6].
5)- وقال العلامة المؤرخ محمد المشرفي – رحمه الله – عن هذا السلطان ، وهو نفسه كلام العلامة المؤرخ أحمد بن خالد الناصري – رحمه الله- في ” الإستقصا”:
” وكان أيضا ينهى قراء كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الإكتفاء بالإعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب و السنة بلا تأويل ، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة عن الأئمة الأربعة، أنه مالكي المذهب حنبلي الإعتقاد، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين “[7].
زيادة على ماسبق ، فإليكم السلطان محمد بن عبد الله العلوي – رحمه الله – وهو يتحدث بنفسه عن عقيدته الأثرية ، و يحذر من علم الكلام ، و يصرح بأن عقيدة الأئمة الأربعة واحدة :
“ان الإمام أحمد- ثبت الله المسلمين بثباته – سد طريق الخوض في علم الكلام ، وقال : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا ترى أحد ينظر في علم الكلام إلا وفي قلبه مرض “[8].
وقال – رحمه الله – أيضا :
“إني مالكي المذهب حنبلي الإعتقاد ، مع أني أؤمن بأن الإمام أحمد على اعتقاد الأئمة الثلاثة ، وأنهم كلهم على هدى من ربهم “[ 9] .
☆ ثانيا / من إصلاحاته في باب العقيدة :
1) – تأليفه لمتن – “مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان ” ، والذي وضعه بمثابة مقرر دراسي لمدرسي الكتاتيب القرآنية , مع أنه نافع لغيرهم من الشيوخ والكهول والشبان، وقد ضمنه مقدمة عقدية سلفية اقتطعها من رسالة ابن أبـي زيد القيرواني ، ثم بين فيها أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، ثم ختمه بذكر ما ينبغي للمسلم أن يتحلى به من مكارم الأخلاق ويبتعد عنه من مساوئها .
لهذا الكتاب نسختان مخطوطتان ، الأولى موجودة في الخزانة العامة بالرباط ونسخة بالخزانة العامة.
طبع هذا الكتاب سنة 1414 هـ الموافق ل:1996 مـ وأشرف على طبعه وتصحيحه الأستاذ احمد العلوي العبداللوي بتقديم الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف السابق.
2)- تأليفه لكتاب “بغية الطلاب المعينة قارئها على عبادة العزيز الوهاب”، وهو شرح لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني – مخطوط بالخزانة الحسنية.
……………………………………………..
المراجع :
[1]- السلفية إستشراف مستقبلي ضمن منشورات الإسيسكو .
[2]- من مقال : ملوك الدولة العلوية والسلفية .مجلة لسان الدين: الجزء 2 السنة 1 – رمضان 1365 / غشت 1946 – ص: 12.
[3]- من مقال “من مناقب عالم الملوك وملك العلماء في زمانه سيدي محمد بن عبد الله العلوي : تجديد الدعوة إلى عقيدة السلف | مجلة دعوة الحق التابعة لوزارة الأوقاف المغربية | السنة السادسة عشر| العدد الرابع والخامس| صفر 1394 هجرية الموافق لمارس 1974 . بتصرف .
[4] -من مقال بعنوان : دار الحديث وفضل علم الحديث| مجلة دعوة الحق التابعة لوزارة الأوقاف المغربية ، العدد 7 السنة السابعة – ذو الحجة 1383 – أبريل 1964 – .
[5] – جولات في الفكر الإسلامي ص 142.
[6]- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ج 2 ص 624.
[7]- الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية و عد مفاخرها غير المتناهية ص 21.
[8]- الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من ستة مسانيد / مخطوط
[9]- طبق الأرطاب / مخطوط