في بنك مجاور لأحد أكبر فنادق العاصمة تونس، يَتَنَهَّدُ موظف البنك بحسرة وهو يهم بإدخال بيانات جواز سفرك المغربي لصرف 50 دولارا أمريكيا إلى الدينار التونسي، ثم يفتح فَاهُ لِيَنطق بلكنة قوية بلغ صداها مسامع كل من كان بالمكان، قائلا: «إياكم والثورة!».
تلتقط أذناك بعضا من حديث موظف تونسي عريض البنية وحسن المظهر مع زميله الجالس خلفه يخبره فيه: «ليكن في علمك، إن الدرهم المغربي أقوى بكثير من الدينار التونسي»، فيرد زميله في هدوء الحكماء وهو يعدل بيده اليسرى ربطة عنقه: «نعم، إنهم محظوظون بتطور اقتصاد بلدهم، لكن إياهم والثورة!!».
لم تمض سوى ثوانٍ معدودات عن هذا الحوار المسموع حتى وقف الموظف يَعُدُّ الـ149.5 دينارا تونسيا التي هي مقابل الخمسين دولارا ويضعها على الطاولة، لكن صوت زميله الجهوري دوى في المكان مجددا لإضافة المزيد إلى كلامه الأول قائلا: «عندكم ملك مميز، هذا من حسن حظكم»، مدعما حديثه بيده اليمنى التي رفعها للأعلى وحرك إبهامها بعد أن ضم جميع أصابعه ليصنع بها ما يشبه علامة «اللايك».
تبتسم للاثنين في هدوء دون أن تدخل معهما في أي نقاش، معتقدا أنك تعيش الاستثناء في تلك اللحظة، قبل أن تُدرك سريعا أنها لم تكن سوى البداية، فسيارة الأجرة التي ستستقلها في ما بعد سيجعلك سائقها تشعر أنك لم تغادر البنك، فبمجرد أن يكتشف جنسيتك المغربية من خلال لكنتك حتى يخاطبك: «أنت مروكي، نهار كبير هادا (تعمد قولها بالدارجة المغربية)، أنتم قاطرة شمال إفريقيا (…) إياك أن تنخدع بخطاب الثورة، لم نعد نجد أحيانا ما نأكله!».
لم تكن هذه زيارتي الأولى لتونس، فقد سبقتها زيارة في 2019، لكنها المرة الأولى التي يُحَاصرك فيها منذ اليوم الأول لك ببلد ثورة الياسمين خطاب «شتيمة الثورة».
بمجرد مخالطة التونسيين تدرك سريعا أنهم كثيرو الكلام، لكن الجديد الذي ستستشعره هذه المرة حيثما وطئت قدماك أن الكلام بات متنفسهم الوحيد للتعبير عن وضع اقتصادي يخنقهم ولا ينبئ بالخير، وأن تكرار خطاب «فقدان الأمل بالثورة» رغم تعدد الوجوه والأماكن التي زرتها يؤكد لك أن البنك الذي ولجته عند وصولك ليس إلا صورة مصغرة عن واقع بلاد يعيش أهلها في هذه الأثناء أصعب فترات التراجع الاقتصادي في تاريخهم، بعد أن كانت قبل عقد من الزمن البلاد التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي.
فهل صار ربيعها المزهر صيفا حارا لم يترك على أرضها بقعة خضراء؟
الحرارة والثورة الضائعة !
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة زوالا من يوم الـ27 من يونيو، لما كانت العاصمة تونس قد تحولت إلى ما يشبه «الفُرنَ»، كل ما فيها قد يحرقك، فبالإضافة إلى ارتفاع درجة سخط مواطنيها، فقد سجلت في ذلك اليوم واحدا من أعلى معدلات الحرارة في العقد الأخير، حيث بلغت 46 في العاصمة و48 درجة في بعض الجهات، لدرجة إعلان المدير العام للشركة التونسية للكهرباء والغاز في تصريح صحافي، في اليوم الموالي، أن تونس بلغت في هذا اليوم الطاقة القصوى لاستهلاك الكهرباء على المستوى الوطني بتحطيم رقم قياسي جديد في استهلاك الكهرباء بما قيمته 4563 ميغاواط، حتى أن بعض الولايات شهدت انقطاعات متكررة وعلى فترات متفاوتة في التيار الكهربائي، فكان التنقل من الفندق المكيف إلى البنك المجاور ثم إلى مطعم قريب لتناول الغذاء كالهجرة من دُنيا إلى دنيا أخرى.
على مدار خمسة أيام، ظلت الحرارة ترتفع مع كل ما حولها مؤثرة على النقاشات التي بلغت بدورها أشد درجات حرارتها، خصوصا أنها كانت تنتظر إعلان الرئيس قيس سعيد عن الدستور الجديد المنتظر الذي يعتبره أنصاره استكمالا لمسار 25 يوليوز، ويصفه رافضوه بالمحطة الأخيرة من مسار الانقلاب الناعم على مؤسسات الدولة.
في خضم ذلك، لم تحضر «الثورة» على لسان أي مواطن إلا ليوجه لها الشتيمة، كذلك فعل الحاج «محمد» بائع الأزياء التونسية التقليدية في المدينة القديمة بلكنته الجنوبية، حين تحول إلى ما يشبه «المذياع» مباشرة بعد سؤاله عن أحوال التجارة في البلاد، حيث كان بين كل جملة وأخرى يلفظ مصطلح «الثورة» ليعتبرها «السبب في كل مصائب التجارة!!»، ولم ترتسم الابتسامة على وجنتيه الواسعتين إلا حين تأكد أنه سيبيع شيئا.
غير بعيد عن محل الحاج أحمد بالمدينة القديمة، يقع شارع الحبيب بورقيبة الرمز الذي ذاع صيته في يناير 2011 حين صدح فيه صوت تونسي «بنعلي هرب.. بنعلي هرب». في هذا الشارع الأكثر تنظيما لا أثر أيضا للثورة، حيث يبدو أكثر رواجا من المدينة القديمة، لكن تَوَاجُدَ مدرعة عسكرية في أقصى شماله حيث تمثال بنخلدون الشامخ، وأيضا في مدخله السفلي حيث تمثال الحبيب بورقيبة، يضفي على المكان حِسَّ الانتقام من الثورة.
رتابة «الأزمة» !
يكاد يكون المشهد في تونس العاصمة موحدا، حزن وكآبة في عيون التونسيين، لكن المشهد يختلف حين الانتقال إلى المرسى (18 كيلومترا شمال العاصمة) حيث تصطف فيلات أغنياء تونس، فهناك تستطيع أن ترى أثر النعمة في وجوه المتجولين على قلتهم وإن كان هناك بريق خفي غير مفهوم يرتسم في أعماق أعينهم، قد يكون الخوف من المستقبل.
حتى في هذه المنطقة التي يقال إنها للأغنياء فقط، تَعرفُ من مرافقيك أن أي مغربي متوسط الدخل يمكنه أن يستأجر مسكنا فخما بها، ففي ظل الأزمة التي تعصف بالبلاد أصبح سعر استئجار «فيلا» في حدود 6000 ألف درهم مغربية أو أكثر بقليل، وهو مبلغ لن يكفي لاستئجار شقة كبيرة في الرباط أو الدار البيضاء، بينما يبدو أن هذا المكان أصبح قِبلة لليبيين، تستطيع معرفة ذلك بسهولة من السيارات الألمانية ورباعية الدفع الباهظة التي تحمل لوحات ليبية والمركونة بجانب الفيلات.
نفس الأمر يمكن معاينته في منطقة سيدي بوسعيد السياحية، الواقعة 20 كيلومترا في شمال شرق تونس العاصمة، وتمثل أجمل الأماكن السياحية حيث تتميز بفن معماري خاص يظهر في المنازل العتيقة المطلية باللون الأزرق وفي المقاهي الجميلة المطلة على المتوسط، حيث ظهرت فارغة إلا من ليبيين وسياح معدودين.
هذه الرتابة التي باتت عليها المرسى وسيدي بوسعيد تبدو جلية أيضا في محيط قصر قرطاج الرئاسي الذي هو مقر العمل الرسمي والإقامة لرئيس الجمهورية، والذي يطل على شاطئ مدينة قرطاج الأثرية في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، والذي يمكن المرور عليه حين الانتقال من المنطقتين، حيث بدا محيطه فارغا من المارة فيما كان الجميع يتحسب صدور الدستور الجديد الموعود.
الأستوديو التحليلي
رغم أن كل شيء يوحي بأن بلاد الياسمين تعيش مرحلة «كمون»، فإن المقاهي المنتشرة بالعاصمة وحدها كانت تنبض بالحياة، فقد تحول معظمها إلى «أستوديو تحليلي» – على حد تعبير صحافي تونس – إذ يحضر فيها السجال السياسي أكثر من أي مكان آخر، وتستطيع أذنك أن تلتقط دون عناء آراء التونسيين المتضاربة عن الدستور المنتظر، والذي أفرج عنه الرئيس قيس سعيد ليلة الـ30 من يونيو (اليوم الأخير لمقامنا بتونس) لِيُفاقم حالة الاستقطاب الحاد في المجتمع السياسي.
الاستقطاب السياسي القائم في البلاد منذ 25 يوليوز (تاريخ بدء الرئيس مسار حل البرلمان والحكومة) يفاقم الوضع الاقتصادي المزري ويزيد من تدهور العملة المحلية مقابل ارتفاع الأسعار، لدرجة أن السؤال الذي بات يتردد على لسان كل زائر لتونس اليوم هو كيف يعيش التونسيون بأجورهم الزهيدة، والتي تتراوح بالنسبة للصحافي ـ مثلا – بين 400 و500 دينار (ما يعادل 1750 درهما)، ولا تتجاوز بالنسبة للأستاذ الجامعي الذي بلغ أعلى درجات الترقي حوالي 12 ألف درهم (يعادل الأجر الذي يتلقاه الأستاذ الجامعي المغربي عند توظيفه)، وتمتزج الصدمة بالحيرة حين معرفة أن معاش الرئيس التونسي من عمله كأستاذ جامعي هو في حدود 450 دينارا (حوالي 1570 درهما) !!
المعاناة التي يتكبدها التونسي في معيشه اليومي لا تقل سوءا عن معاناته للوصول إلى بلده، فالسفر على متن الخطوط الجوية التونسية هو إلقاء بالنفس في الجحيم، ذلك أن التأخر في إقلاع الطائرة أصبح ممارسة اعتيادية، تُشعرك بذلك الموظفة المكلفة بتسجيل الركاب في مطار الدار البيضاء حين تعلمك أن طائرة الخطوط التونسية ستتأخر ثلاث ساعات، قبل أن تصبح المدة خمس ساعات، دون أن تتلقى أي اعتذار من موظفي الطائرة الذين يجعلك عُبُوسهم تعتقد أنك أنت من تأخر عن الطائرة، كما تشعر بذلك في مطار قرطاج في طريق العودة، حين تعاين في سبورة الرحلات أن كل رحلات هذه الخطوط بدون استثناء متأخرة عن موعدها.
إن تونس أرض يحكى أن شعبها يوما أراد الحياة، ولكن إلى اليوم يأبى أن يستجيب القدر، فكل ما في تونس الخضراء يصرخ بصوت عالٍ لكنه مكتوم، ولسان حال أهلها يسائل الزمن أما آن للقيد أن ينكسر، وأين الحياة التي ننتظر؟ وأنى نرى العالم المنتظر؟ فقد رحل عنها الربيع الذي حدثنا عنه أبو القاسم الشابي بأنغامه وأحلامه وشعره العطر، وظل صيفها الحار الحزين يشعب يسائل الجميع: أما علمتمونا صغارا أن الأرض تبارك أهل الطموح؟ وأن شوق الحياة ودماء الشباب سبيل لصعود الجبال؟ ولكننا لم نرتفع نحو الأعالي، بل غرقنا في حفر أعمق لم تخطر لأكثرنا تشاؤما يوما على البال.
في كل ركن بالعاصمة يمكنك أن تلتقط صورة لأحد هذه الأسئلة التي تحدثك أن ياسمين الخضراء تقاوم الذبول والفناء، وأن كثيرا من أبناء العاصمة لم تعد تلهمهم رائحة الثورة.
عقدة مغربية في تونس !
لا يمكن لأي مغربي وهو يتجول في تونس عدم الوقوف على التقدير الذي يُكِنُّهُ التونسيون للمغاربة ونظرتهم بإعجاب للمغرب، لكن بسهولة أيضا يمكن استشعار كيف تحول المغرب إلى عقدة لدى النخبة التونسية.
ومن تجليات ذلك جعل المغرب محور مقارنة بتونس في كل شيء، سواء في الرياضة أو الاقتصاد أو السياسة، خاصة في القنوات التلفزية التونسية التي لا تتوقف عن هذه المقارنة والتي تُظهر تفوقا للمغرب.
هذه العقدة المغربية التي تشكلت في السنوات الأخيرة، أكدها دبلوماسي مغربي لـ»الأيام»، وأرجعها إلى شعور متنام وسط النخبة التونسية بعدم السماح بالتفوق المغربي، خاصة أن تونس كانت تحتفظ لنفسها في السابق بصورة مميزة عن تفوق مواطنيها في التعليم وتقديم نفسها كبلد متفوق على مستوى الحريات الفردية عن كل الشعوب العربية، لكن هذا المشهد لم يعد طاغيا في ظل التدهور الذي تعرفه البلاد على كل الأصعدة، مقابل تطور للمغرب.
ويحرص كثير من التونسيين الذين قادهم القدر إلى العمل في المغرب أو زيارته إلى تقديم مقارنة بين ما تحقق في بلادهم والمغرب على مدار السنوات الأخيرة، فقد قام بذلك مدرب الرجاء البيضاوي السابق سعيد الشابي الذي حول بلاطو قناة تونسية إلى فرصة لإظهار الفروقات الكامنة بين البنية التحتية الرياضية المغربية والتونسية، معتبرا أنها تشبه تلك المتواجدة في ألمانيا.
المِزَاج المفسر لغرائبية تونس
هناك قولة شهيرة منسوبة إلى أحد قادة الثورة الفرنسية (1789-1799) مضمونها: «إذا اختار الشعب يوما الفوضى وسفك الدماء، فإنه بدلا من تحقيق الحرية سوف يسقط في هاوية العبودية، وسوف يخرج من أعماق تلك الفوضى قاهر مستبد يتراءى للشعب في ثوب منقذ».
لا يمكن النظر إلى حال تونس دون استحضار عمق هذه القولة، خاصة حين تجد أن معظم المواطنين التونسيين الذين تحدثت إليهم «الأيام»، يُعَبرون عن «ندمهم» أو في أحسن الأحوال «خيبة أملهم» من المشاركة في ثورة 2011 التي أطلق شرارتها إحراق البائع الجائل البوعزيزي نفسه، وأن منهم من عبر صراحة عن حنينه إلى زمن «البنعلة» (في إشارة إلى عهد الرئيس زين العابدين بنعلي المطاح به) حيث كانت أسرته تحكم بالحديد والنار وكانت البلاد تعرف استقرارا أمنيا ووضعية اقتصادية أفضل.
هذا المزاج العام الذي يمكن استشعاره في تونس هو ما يفسر استمرار دعم طبقة من الشعب لقرارات الرئيس قيس سعيد رغم غرائبيتها، واعتباره من لدنهم «منقذا» مما يسمونه «استبداد الأحزاب التي حكمت البلاد طيلة العقد الماضي»، رغم أن عددا منها كرس ممارسات سياسية نبيلة ورسم صورة مميزة عن تحالف فريد بين العلمانيين والإسلاميين خاصة في حكومة الترويكا.
وبمجرد الاستماع إلى نبض التونسيين تتأكد أن من ينظر من الخارج ليس كمن ينظر من الداخل، فالأزمة الاقتصادية الصعبة التي تثقل كاهل المواطنين تُنسِيهم أي هوامش أخرى، وتجعل غضبهم منصبا على الساسة الذين تقلدوا حكم تونس بعد الثورة، ولعل ذلك ما يُشجع الرئيس التونسي الحالي البعيد عن أي انتماء سياسي على المضي قدما في قراراته التي تجعل كل السلطات بيده وحده، مدعوما من حزبين قوميين اثنين أحدهما غير ممثل في البرلمان، فيما تبقى الجبهة العريضة الرافضة لقراراته «سياسية» أكثر منها «شعبية».
وتزداد الصورة وضوحا في استطلاعات الرأي، التي تُظهر السياسية المثيرة للجدل «عبير موسى» رئيسة الحزب الدستوري الحر التي لا تخفي كرهها للثورة وتعبر عن نفسها بأنها امتداد لحزب بنعلي، بوصفها الأكثر شعبية في البلاد والمرشحة للفوز بالانتخابات البرلمانية المقبلة.
مثل هذه الصورة يمكن الوقوف عندها من الليبيين الذين تحدثت إليهم «الأيام» في تونس، فهناك شعور عام بالحنين إلى زمن القذافي، والسبب لخصه صحافي ليبي مخضرم بالقول: «في السابق كنا نعاني من ديكتاتور واحد، لكننا اليوم نواجه آلاف الديكتاتوريين، فكل مقاتل في ميليشيا هو حاكم للبلاد!!».
طريق تونس نحو أوروبا والسفارة الغائبة في ليبيا
رغم أن المغرب الأقرب إلى أوروبا وبلد العبور المفضل للمهاجرين غير النظاميين، فإن عددا من المغاربة الحالمين بالهجرة إلى الضفة الأخرى باتوا يفضلون الهجرة عبر ليبيا التي تعيش حالة عدم الاستقرار منذ 2011، ويظهر ذلك بشكل واضح في الرحلات الجوية بين الدار البيضاء وتونس العاصمة، حيث يسجل باستمرار انتقال مغاربة لديهم نوايا للهجرة السرية إلى تونس، مستفيدين من إلغاء التأشيرة بين البلدين، ومن ثم يخططون للوصول إلى ليبيا إما جوا أو برا. ولم يُخفِ مصدر دبلوماسي مغربي حالة الحرج التي يشعر بها حين يتم إشعار السفارة المغربية بتونس بتواجد مغاربة عالقين في مطار قرطاج، حيث تقوم السلطات التونسية بإيقاف أي مغربي يشتبه في كونه مهاجرا سريا، ويتم إشعار السفارة قبل إعادة ترحيله إلى بلده.
وحاليا، يستقر 80 ألف مغربي في ليبيا، لم تمنعهم أجواء الحرب التي تُخَيم على البلاد منذ الإطاحة بالرئيس معمر القذافي في 2011 من العودة إلى بلادهم، حيث يقيمون بمدن مختلفة في ليبيا، ويمارسون مهنا مختلفة، وعدد منهم كونوا أسرا، لذلك تبقى خيارا مفضلا للحالمين بالهجرة، منهم من يخطط للاستقرار المؤقت في ليبيا.
ومن المفارقات العجيبة التي ليس لها تفسير، أن هؤلاء الـ80 ألف مغربي يعانون من غياب سفارة في ليبيا، حيث يضطرون للدخول إلى تونس لقضاء مصالحهم القنصلية وغيرها، في وقت تستمر السفارة المغربية في طرابلس مغلقة، رغم أن المغرب يلعب دورا محوريا في الساحة الليبية من خلال جمع شمل الليبيين على طاولة الحوار في الصخيرات وبوزنيقة، واستئناف جل سفارات العالم عملها في ليبيا.
ومن أجل التقليل من متاعب مغاربة ليبيا، تستعد سفارة المملكة في تونس لتسيير قنصلية متحركة في الأراضي الليبية، فيما سبق أن قامت بتجربة تنظيم قنصلية متحركة على الحدود مع ليبيا.
الاقتصاد الذي يمكن أن يجنيه المغرب بدل تونس
رغم الوضعية الاقتصادية الصعبة التي تجتازها تونس، فإن عائداتها من الاقتصاد الثقافي والتكويني لم يتضرر، مستفيدة من الطفرة غير المسبوقة التي عرفها النسيج الجمعوي بعد ثورة 2011 وتعزيز مناخ الحرية الذي انفردت به عن غيرها من دول الربيع العربي، من خلال تأسيس عدد من الجمعيات الناشطة في مجالات حقوقية وسياسية واجتماعية ليتجاوز عددها 24 ألفا، إضافة إلى اختيار عدد من المنظمات الحقوقية الدولية والمشتغلة في مجال الصحافة فتح مكاتب إقليمية لها في تونس العاصمة.
ومن إيجابيات هذا الزخم في الأنشطة التكوينية والثقافية التي تحتضنها تونس، عدم تضرر القطاع الفندقي من تراجع السياحة في البلاد، واعتماده أساسا على هذه الأنشطة ذات الطابع الدولي والإقليمي التي تنظمها هذه المنظمات والتي تعرف حضور مشاركين من الخارج، مستفيدة أيضا من إلغاء البلاد التأشيرة مع أكثر من قطر عربي.
لكن حاليا، يسير هذا الوضع نحو التغيير، بعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد منذ فبراير الماضي عزمه إصدار مرسوم يقضي بحرمان الجمعيات من مصادر التمويل الأجنبي، بداعي أنها امتداد لقوى خارجية تريد التدخل في الشأن التونسي، في وقت تتحدث أوساط مدنية عن قرب انتهاء الحكومة من تعديل المرسوم المتعلق بتنظيم نشاط الجمعيات.
وفي هذا الإطار، تخوض أغلب الجمعيات المحلية التي تعتمد في أنشطتها على التمويل الأجنبي والمنظمات الدولية والإقليمية المستقرة في تونس سباقا مع الزمن من أجل إنهاء مشاريعها قبل صدور المرسوم الذي يلوح الرئيس به، فيما تبحث عدد من المنظمات الدولية نقل مقراتها إلى بلد آخر في شمال إفريقيا، وهنا يُطرَح السؤال على المغرب، الذي يمكنه بقرار «سياسي» أن يحل محل تونس في هذا المضمار ويستفيد من تنقل عدد من المنظمات الدولية والإقليمية النشيطة.
مصدر مغربي مسؤول تحدثت إليه «الأيام» في الموضوع، لم يخفِ تفكير المغرب في هذا الملف، لكنه أصر على أن الحسم في هذا التوجه يرتبط بالتخلي عن التشدد في منح مواطني بعض الدول العربية المتوترة التأشيرة، لأن الاستمرار في ذلك سيعيق عمل هذه المنظمات التي تستهدف عدد منها هذه الدول.
وعلاقة بموضوع التأشيرات، عاينت «الأيام» شكوى عدد من الصحافيين والمستثمرين الليبيين لعدم منحهم تأشيرة الدخول للمغرب مرات عديدة، سواء للمشاركة في أنشطة مهنية أو تكوينية أو للاستثمار في المغرب، حيث يواجهون تشددا في منحهم التأشيرة، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة أن عددا من الليبيين يبحثون استثمار أموالهم في المغرب، وآخرون ينتقلون بكثافة إلى تونس وتركيا والأردن للعلاج من مخلفات الحرب ـ تحت نفقة الحكومة – وكان بإمكان المصحات المغربية أن تستفيد من عائدات كبيرة.