للأزمة الصامتة بين المغرب وفرنسا أكثر من وجه: عدم تبادل زيارات بين مسؤولي البلدين، رسائل مناسباتية جافة، تقارير استخباراتية تحريضية ضد المغرب، خفض عدد تأشيرات المغاربة إلى الحد الأقصى حتى شملت رجال أعمال، وما يصدر عن الدولة العميقة الفرنسية من سلوك تعتبر الرباط أن فيه الكثير من التشويش حتى قبل تهمة “بيغاسوس” التي لم ترد في تصريح أي مسؤول فرنسي.
بعض أسباب هذه الأزمة كامنة في التقارب الإسباني المغربي، وفي قوة العلاقات التي أصبحت تجمع الرباط بواشنطن منذ اتفاقية أبراهام، وفي امتداد النفوذ المغربي في إفريقيا الذي كان خارج سيطرة ووصاية المستعمر القديم. فيما العداء الجزائري اتجاه المملكة يبدو اليوم كعقيدة بعد أن وصل الأمر إلى قطع العلاقة بين البلدين، وليست قضية الصحراء إلا ورقة يلعبها قادة الجزائر للإبقاء على حجر الحصى في الحذاء المغربي لإعاقته عن المشي قدما، وأضحت الساحة الدبلوماسية والإعلامية وكل الأنشطة مجالا للعب الجزائر ضد المصالح المغربية.
ومنه ما حدث في تونس مؤخرا، والذي يجب أن يفهم في سياق محاصرة المغرب وإبقائه كجزيرة معزولة محاطة بالمشاكل، ما أن يفك لغما حتى تنفجر في وجهه ألغام أخرى، خاصة بعد النجاحات التي أحرزها المغرب في جل مواقع التأثير الاستراتيجي. فكيف تنفجر بين الفينة والأخرى هذه الأزمات في وجه المغرب ومع محيطه الإقليمي الذي يشوبه الكثير من الحذر القلق، من ألمانيا إلى إسبانيا وفرنسا ومن الجزائر إلى تونس؟
في الوقت الذي كانت طائرة الرئيس الفرنسي ماكرون تستعد للإقلاع من مطار الهواري بومدين بالجزائر يوم 27 غشت بعد زيارة للجار الشرقي دامت ثلاثة أيام، كانت طائرة جزائرية تحط بمطار قرطاج بتونس، محملة بوفد دولة إفريقية أخرى بالإضافة إلى إبراهيم غالي، حيث استقبل الرئيس التونسي قيس سعيد زعيم جبهة البوليساريو بمناسبة قمة تيكاد8 في حادث غير مسبوق من دولة عربية، هل الأمر محض صدفة لتوازي الحدثين؟
قد يكون كذلك، إلا في السياسة، فما قام به الرئيس التونسي قيس سعيد باستقباله زعيم جبهة البوليساريو خلق رجّة كبرى ليس فقط داخل المغرب بل حتى داخل النخبة التونسية، لأنه حدث غير مسبوق إلا ما اعتبر استثناء في بداية الثمانينات من طرف الراحل ياسر عرفات الذي كان رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية حين عانق زعيم الجبهة الراحل عبد العزيز المراكشي كرد فعل على استقبال الملك الراحل لشيمون بيريز، لكن لم يدم الخلاف طويلا ولم يكن له نفس الوقع. يحدث هذا في الوقت الذي أعلن آخر خطاب للملك أن المغرب سيجعل من قضية الصحراء منظارا يرى من خلاله مختلف شركائه، وميزانا يزن به طبيعة علاقاته مع أصدقائه، إذ لم يعد المجال ـ بحسب الرباط ـ يسمح بالتخندق في المحطة الرمادية في قضية الوحدة الترابية للمملكة. وهو ما يعني ببساطة أن المغرب قرر أن تكون الصحراء قضية وجود يمر عبر عيونها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي… وقد شكلت تونس اختبارا بعد الخطاب الملكي لهذه الاستراتيجية الجديدة، وقبلها كانت ألمانيا ثم إسبانيا.
طلائع انحراف الرئيس قيس سعيد كانت ملامحها قد بدت من بعيد، لكن لم يحسن المسؤولون في المملكة التقاط الإشارة، أو لربما لم يريدوا الذهاب حتى أعمدة هرقل لكي لا يجعلوا النظام التونسي لقمة سائغة في بطن الجزائر، فتصبح أكثر تطرفا اتجاه المصالح المغربية كما يفسر ذلك مسؤول وازن لـ»الأيام». فمنذ توليه رئاسة تونس دشن قيس سعيد سلسلة من الزيارات المتبادلة مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في فبراير 2020 ودجنبر 2021، بعدها حصل على قرض بقيمة 300 مليون دولار، وتمت إعادة فتح الحدود بعد كورونا بين تونس والجزائر ومنحت امتيازات تخل حتى بالسيادة التونسية لصالح السياح الجزائريين مما فجر غضب «التوانسة» أنفسهم، لكن أكبر انحراف تمثل في مجلس الأمن سنة 2021 حين امتنعت تونس عن التصويت لصالح قرار مجلس الأمن بشأن تمديد عمل المينورسو لمدة سنة إضافية وهو قرار جد غريب من دولة عربية.
لكن لماذا انفجرت سلسلة متتالية من الأزمات الحادة بين المغرب وشركائه، بعضها صامت كما عليه الوضع بين المغرب وفرنسا، وبعضها تفجّر على نطاق واسع كما في الحالة التونسية الغريبة؟ وهل يؤول الوضع إلى ما صار عليه الأمر مع ألمانيا وإسبانيا؟ فيما العلاقة مع الجزائر تظل الاستثناء الذي لا يتكرر، ثم ما سبب توالي احتداد هذه الأزمات، ولماذا تلتقي جلها في قضية الصحراء؟ ولمَ تتخذ الرباط ردودا قوية غير مهادنة على ما تعتبره استفزازا أو إضرارا بمصالحها الاستراتيجية؟
ليس هدفنا في هذا التحليل الوقوف على الآني والعابر في أزمة المغرب مع دول جلها تقيم في حزام محيطه الإقليمي، بقدر ما نحاول الذهاب إلى أبعد مدى لفهم الأزمات المتتالية المثارة مع المغرب ومختلف ردود الفعل الوطنية اتجاه هذه الأزمات، إيمانا منا بأن السياسة لا تصنع فقط بالقرارات العابرة والمواقف الآنية، بقدر ما تحرك خلفياتها عوامل معقدة، من ثقل التاريخ بجراحه وأمجاده، بانتصاراته وانكساراته، والجغرافيا التي تدفع نحو المغامرة والانفتاح أو تفرض الحيطة والحذر والانعزال، وأيضا بفعل اعتبارات نفسية واجتماعية وثقافية تتدخل في صنع السياسة في الداخل كما في الخارج، وتتحكم في الفعل وردود الفعل. هذا البعد هو الذي أعاد الاعتبار مؤخرا لتصور مؤرخ ومفكر وازن من حجم عبد الله العروي، الذي تحدث منذ ما يقارب العقدين عن نظرية «المغرب المطوق» بموقعه الجغرافي وثقل التاريخ الإمبراطوري للمملكة ومواقف الدول التي تحاول محاصرة المغرب، فيما يسعى المغاربة دوما، كشعب يقبل أن يحكم الغير بدل أن يحكمه الآخرون، إلى التحرر والاستقلال والانعتاق من أسر الجزيرة المحاصرة. إن الأمر يتعلق بمفكر لا يقف عند الآني والعابر، بل يهمه كمؤرخ القبض على ما يحرك الحدث الآني وإسقاطاته على الحاضر، أو كما عبر في أحد حواراته: «يصعب علي التدخل في هذا النقاش – أي الراهن السياسي – لسبب واحد لا علاقة له بشخصي، وهو أني لا أستطيع كمؤرخ وكمحلل أن أقف عند الظروف الراهنة أحكم على هذا ضد هذا، مع هذه السياسة أو ضد هذه السياسة. فلا بد أني أرى الجذور دائما عميقة ومتشعبة».
والحق أننا عند بحثنا في نظرية المغرب المطوق التي قال بها العروي، وجدنا مفكرين أجانب تحدثوا عن المغرب «المنعزل» و»المحاصر» و»المغلق» بالطبيعة والجغرافية والعوائد الثقافية والاجتماعية لا السياسية فقط.
على سبيل المثال لا الحصر، ألفونسو ذي لاسيرنا صاحب الكتاب الشهير «جنوبي طريفة المغرب وإسبانيا: سوء تفاهم تاريخي» والمؤرخ وعالم الجغرافيا إميل فييكس غوتيي في كتابه «ماضي شمال إفريقيا، القرون المظلمة»، بالإضافة إلى العديد من السرديات التي تركها رحالة غربيون زاروا المغرب، فما الذي يعنيه المفكر الكبير عبد الله العروي بأطروحة المغرب المطوق، وكيف نظر سابقوه في سياق ذات المنظور إلى المغرب المغلق طبيعيا المفتخر بماضيه الإمبراطوري، والذي يبدو اليوم مثل جزيرة معزولة تدفع المغاربة إلى روح التحدي والمقاومة؟