عادل بن حمزة ، محلل سياسي
عادة ما تشغل أدبيات الانتقال الديموقراطي وتجاربه التي شهدتها أوروبا وأميركا الجنوبية حيزاً كبيراً من اهتمامات الباحثين والمتابعين لتجارب الانتقال الديموقراطي التي تحوّلت إلى علم قائم الذات متفرع من علم السياسة، لذلك من المفيد الانتباه إلى تجربة لها خصوصياتها من خلال سياقات محلية ودولية تشكلت لتمنحها مساراً مختلفاً، لعب فيه العامل الخارجي، بالإضافة إلى التحديات الإقليمية ذات الطابع الجيواستراتيجي، دوراً حاسماً، بخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
دخلت القوات الأميركية كوريا الجنوبية يوم 8 أيلول(سبتمبر) 1945، وذلك بعد ستة أيام من استسلام القوات اليابانية وبعد يومين من “إعلان سيول” من جانب الجمعية الوطنية للجان الشعبية المعادية لليابان. كانت هذه السلطة الجديدة قد قامت بالفعل قبل وصول القوات الأميركية، وعملت على نزع سلاح اليابانيين وحررت السجناء السياسيين وألقت القبض على المتعاونين. غير أن القوات الأميركية رفضت التعامل مع القوميين الكوريين وفضلت إقامة حكومة عسكرية أميركية في كوريا USAMGIK (U.S. Military Government in Korea) وذلك يوم 9 أيلول/سبتمبر 1945 كسلطة رئيسية حتى سنة 1948 وفي شباط(فبراير) 1946 تم إحداث حكومة مدنية كورية تحت وصاية الحكومة العسكرية الأميركية في كوريا ترأسها سينغمان ري Syngman Rhee ، وهو سياسي يميني عاد إلى كوريا في تشرين الأول (أكتوبر) 1945 بعدما أمضى 39 سنة في الولايات المتحدة، وقد فضلت واشنطن دعم الحزب الديموقراطي الكوري (KDP) وهو حزب مناهض للشيوعية تأسس قانونياً خلال فترة الاحتلال الياباني.
كانت الولايات المتحدة في تعاطيها مع الوضع السياسي الجديد في كوريا، تنطلق من مخاوفها من المد السوفياتي، ووجود كوريا في ملتقى يجمع السوفيات بالصينيين، لهذا لم تعط أهمية كبيرة لموضوع الديموقراطية، بل بحثت كيف تجمع القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية النافذة، وحتى تلك التي كانت مقربة من الاحتلال الياباني، لتشكل بهم نواة دولة تابعة لها في مواجهة المد الشيوعي، وهذا هو ما أطّر الدعم والمساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة لكوريا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد تركزت جهود الأميركيين على دعم الجوانب العسكرية والأمنية لمواجهة أي نشاط سياسي، هكذا سيتم إحداث وكالة للاستخبارات تحمل اسم KCIA (وكالة الاستخبارات المركزية الكورية).
عموماً لم يكن الحضور الأميركي مرحباً به في المجتمع الكوري، فقد اندلعت سلسلة من الاحتجاجات قادها المجلس العام لنقابات العمال الكورية (GCKTU) بقيادة نشطاء الحزب الشيوعي، وذلك بين سنتي 1946 و1948 وجوبهت بقمع كبير استمر حتى بعد عام 1948، إذ كشفت تقارير لجنة الأمم المتحدة في كوريا في آب(أغسطس) 1949 أنه في الأشهر الثمانية قبل 30 نيسان(أبريل) 1949، تم احتجاز 89710 شخص بموجب “مرسوم لحماية السلام الوطني”، وكانت الخسائر في الأرواح البشرية بالآلاف، بل بعشرات الآلاف. وقتل العديد من القادة التاريخيين الذين حاربوا ضد اليابانيين ولم تكن لهم أي صلة بالشيوعيين.
لم تنبثق تجربة الانتقال الديموقراطي في كوريا من أزمة اقتصادية، بل إن مسارها يتسم بخصوصية ربما لم تتحقق في تجارب أخرى على المستوى الدولي، فقد أظهر النظام الدكتاتوري في كوريا أداءً اقتصادياً كبيراً، واستطاع تحقيق معدلات نمو لافتة من رقمين، إذ بلغ سنة 1986 ما قدره 12 في المئة، وبين سنتي 1970 و1980 زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عشرة أضعاف، وحقق الميزان التجاري فائضاً بلغ 4 مليارات دولار، لكن هذا التطور الاقتصادي خلف طبقة متوسطة تبدي طموحات أخرى تتعلق بالمشاركة السياسية، فقد أكد استطلاع للرأي أجراه في ربيع 1987 معهد” Hanguk Ilbo ” ، أن 83 في المئة من الطبقة الوسطى الجديدة، ترفض مقايضة حريتها ورفاهيتها من أجل الاستقرار، وأن 85 في المئة منهم يضعون احترام الحقوق الأساسية قبل النمو، وهذا ما يتوافق مع خلاصة الدراسة الهامة التي أنجزها كل من Wu و Davis سنة 1999 حول 100 دولة بين 1975 و1992 والتي مفادها أنه عندما يتحقق الازدهار الاقتصادي يزداد منسوب الحرية السياسية. علاوة على ذلك، لم تكن هناك أزمة مفتوحة، سواء داخل الطبقة الحاكمة أم داخل المؤسسة العسكرية بالشكل الذي يوحي بقرب سقوط النظام.
شكل الوضع الجيواستراتيجي في شبه الجزيرة الكورية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم كوريا، وأجواء الحرب الباردة، واقعاً وظّفته النخبة العسكرية لتبرير استمرارها في حكم البلاد وتمديد السلطوية، مستثمرة في ذلك أربعة عوامل أساسية:
– العامل الأول: يرتبط بالرؤية الأميركية لكوريا ودورها في مواجهة المد الشيوعي، وهو ما جعل كل حركة سياسية مطلبية يتم التعامل معها كتهديد خارجي، ويجد المساندة الأميركية.
– العامل الثاني: الدور السلبي الذي لعبه “الشيبول” (Chaebols) الذي يعود إحداثه إلى إرادة الدولة مطلع الستينات من القرن الماضي، وهي مجموعة من الشركات المستقلة رسمياً، لكنها تعمل تحت السيطرة الإدارية والمالية لعائلة واحدة، وهو ما يعني جزءاً من الثروة متكتلاً في عائلة واحدة، إذ شكل التحالف بين النخبة الاقتصادية والنخبة العسكرية، جبهة لمواجهة كل دينامية مجتمعية تطالب بالإصلاح السياسي ومحاربة الفساد، هذا الأخير ارتبط في كوريا “بالشيبول” (Chaebols) ، حيث إن المؤسسات الاقتصادية الكبرى هي في معظم ملفات الفساد التي تورط فيها سياسيون. ويمكن اعتبار “الشيبول” (Chaebols) إحدى النقاط السلبية في تجربة الانتقال الديموقراطي في كوريا، فتطورها جاء في كنف السلطة، وهي مدينة للمنطق الذي أفرزها، وهو ما يتطابق مع النظرية التي وضعها كارل ماركس منذ 1850 عن “نمط الإنتاج الآسيوي” والتي تقوم على أن المجتمعات الآسيوية قد تم استعبادها من طرف طغمة حاكمة مستبدة تستقر في المدن الأساسية، وتستحوذ مباشرةً على فائض المجتمعات القروية ذات الاقتصاد المعيشي الذي يحقق اكتفاءها الذاتي، صحيح لم تعد في كوريا مجتمعات قروية تعيش على الكفاف، لكن بنية العلاقات الاجتماعية والتحالفات المرتبطة بالسلطة لم تتغير، وهو ما جعل “الشيبول” نقطة سوداء في مسار الإصلاح السياسي في كوريا.
– العامل الثالث: يعود إلى تأخر ظهور طبقة وسطى في كوريا تحمل هم التغيير، إضافة إلى حاجة المجتمع الكوري بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى دولة قوية تنهي إرث حقبة الاحتلال الياباني وما خلفه من مآس، فكان الاستقرار وتحقيق النمو الهدف الأساسي.
– العامل الرابع: يتعلق بقوة البيروقراطية في كوريا الجنوبية، والتي تعتبر بحق، إلى جانب النخبة العسكرية و”الشيبول”، النواة المركزية للبنية السلطوية للنظام، وهو ما تسبب أيضاً في ضعف اللامركزية في كوريا، وتعود قوة البيروقراطية إلى بداية وضع مخططات التنمية، إذا كانت البيروقراطية هي النخبة التي تدير المخططات وتضع أهدافها، وليس من باب الصدفة أن كوريا تتوفر على أكبر المراكز والمعاهد لتكوين الأطر الإدارية.
لم يبدأ مسار الانتقال الديموقراطي في كوريا بناءً على قناعة لدى النخب الحاكمة، بل تحت ضغط الشارع، وبخاصة الطلبة والطبقة الوسطى الصاعدة، وشكل دستور 1988 نقطة تحول مهمة في هذا المسار، ولعل تحديد مدة الرئاسة في ولاية واحدة من خمس سنوات، كان الهدف منه منع أي إمكانية لاستمرار الرئيس في الحكم فترة غير محددة مثل ما حدث سنة 1954، عندما تم إلغاء نظام الولايتين، وهو ما أصبح اليوم مطلباً في كوريا، ذلك أن التغيير في كوريا منذ الجمهورية الأولى، لم يكن يتحقق سوى عبر الانقلابات العسكرية.