عزالدين السريفي / رئيس التحرير
ظل من هوية الشعوب، ورمزا للكرامة والسيادة والأصالة والشموخ، يصفه الكثيرون بالناطق الرسمي باسم الأوطان دون صوت في المحافل المحلية والخارجية، ولأنه رمز للتضحية فإن جثامين شهداء الوطن تلف بالأعلام، بل إنه يرفع في الأعالي حتى يبقى مرادفا للشموخ.
مهما علا شأن الإنسان فإنه ينحني إجلالا للعلم الوطني، ينخرط في نوبة خشوع احتراما لراية تأتي بعد الولاء لله. لذا كان أسلافنا يضعون العلم في مقدمة الجيوش، قبل أن يصبح جزءا من بروتوكول مراسيم استقبال الشخصيات، وفي المنافسات الرياضية والملتقيات السياسية والفكرية والاجتماعية وعلى واجهة المؤسسات الحكومية.
عندما تمتد يد آثمة لتعبث بالعلم الوطني، ينتاب المواطنين زلزال الغضب، تتطاير شظاياه وتكبر رغبة الثأر من الفاعل، كما حصل حين قام بعض الانفصاليين بتدنيس العلم الوطني في باريس و برلين 2019 و 2021 ، في سلوك همجي يسيء لأجيال من المغاربة والمغربيات من شمال المغرب إلى جنوبه، والذين قدموا تضحيات جسام من أجل استقلال المغرب ووحدة أراضيه ونمائه وتقدمه.
تحرك الرأي العام الوطني وانتابه شعور بالمهانة أمام فعل استهدف وجدان شعب بكامله، رغم أن ظاهر الفعل إحراق قماش في ساحة عمومية، والحال أنه بمثابة إضرام للنار في قلوب وأفئدة المغاربة أجمعين.
ينشأ العلم الوطني بموجب قوانين وتشريعات خاصة تحدد أبعاده وألوانه بما يتفق مع فكرة وطنية معينة تتجسد فيها مضامين سياسية سامية ونبيلة، كما يضع المشرع قوانين تحميه من عبث العابثين وتجرم أفعالهم.
اليوم، بعد وقاحة نظام الجزائر، نتوقف عند قصة العلم المغربي، وعزته وشموخه.
في سنة 1948 شد فريق الوداد البيضاوي الرحال إلى مدينة وهران عبر القطار، من أجل مواجهة فريق سيدي بلعباس الجزائري، برسم نصف نهائي بطولة شمال إفريقيا، واعتبر المتتبعون هذه المواجهة «مباراة القرن» ضد فريق جزائري يتشكل في غالبيته من عناصر أوربية.
لكن حكم المباراة لاحظ أن أقدام لاعبي الوداد لم تطأ أرضية ملعب مملوء عن آخره، لم تنفع صفارة الحكم في مغادرة المغاربة مستودع الملابس، وحده العميد قاسم قاسمي هو الذي توجه نحو مندوب المباراة ونقل له قرار المدرب الأب جيكو الذي يشترط رفع العلم المغربي في الملعب لخوض المباراة، وبعد اجتماع الحكم مع منظمي المباراة تقرر رفع الراية المغربية أمام صيحات الجماهير التي كانت فرحة بالحدث، وعرف الملعب بعد دخول اللاعبين أحداثا دامية بين جمهور جزائري مؤيد للشرط الودادي وجمهور فرنسي رافض للقرار. انتهت الجولة الأولى بالتعادل السلبي لكن الشوط الثاني عرف غزارة في الأهداف، إذ فاز المغاربة بأربعة أهداف مقابل ثلاثة.
جلب هذا القرار متاعب كثيرة للمدرب الأب جيكو، وتعرض فور وصوله للمغرب لمحاولة اغتيال، نجا منها بأعجوبة، كما أن القطار الذي نقل البعثة الودادية توقف بمجرد مغادرة وهران بسبب عطل قيل إنه من فعل فاعل فرنسي، إذ رفض مستخدمو القطار تقديم خدماتهم للاعبين هزموا أشهر فريق جزائري.
في أول رحلة للوداد منذ تأسيسه إلى الجزائر لمنازلة سيدي بلعباس، حمل اللاعب بوشعيب خالي وعبد القادر جلال منشورات وطنية من المغرب إلى الجزائريين، وقد علم الأب جيكو مدرب الوداد بالأمر واطلع على تلك المطبوعات ولم يعارض بالرغم من أنه كان المسؤول الأول في حالة كشف الأمر لدى السلطات الفرنسية.
سيظل 28 فبراير 1976، يوما مشهودا في التاريخ، لأنه يؤرخ للاسترجاع الرسمي للصحراء المغربية وتحريرها من المستعمر الإسباني. كان محمد فاضل زيدان ماء العينين واحدا من بين من حظوا بشرف رفع العلم الوطني بعد إنزال علم المستعمر، فهو المقاوم الذي جمع بين العلم والتجارة، ولعب دورا جهاديا كبيرا خلال الحقبة الاستعمارية، ما جعله رقما مهما في معادلة المقاومة بالجنوب المغربي.
ولما جاءت المسيرة الخضراء المظفرة، والتي تجسد بحق حدثا تاريخيا بارزا سوف يؤرخ لبداية نهاية الحقبة الاستعمارية بالصحراء، كان محمد فاضل زيدان ومن معه من المقاومين الأوائل الذين تقدموا الركب مشهرين الأعلام الوطنية وكتاب الله عز وجل.
«بعد أن تم جلاء آخر جندي إسباني عن الصحراء المغربية، تم بمدينة العيون إنزال العلم الإسباني ورفع العلم الوطني المغربي وذلك برئاسة الوزير الأول أحمد عصمان وحضور ممثل وزير الداخلية إدريس البصري، وعامل صاحب الجلالة على الأقاليم الصحراوية أحمد بنسودة ونائبه العربي الفحصي ورئيس الجماعة الصحراوية خطري ولد الجماني وحسن أوشن عامل أكادير، حيث طلب أحمد عصمان من محمد فاضل زيدان ماء العينين بأن يرفع العلم الوطني بمعية خطري ولد الجماني، وهو الأمر الذي لم يترددا معا في الاستجابة له باعتباره أكبر تشريف يمكن أن يحظى به المقاوم بعد مسار حافل من النضالات في مواجهة القوى الاستعمارية التي خرجت من أرض الصحراء المغربية.
وبعد أن حققت المسيرة الخضراء أهدافها تم تعيينه من لدن أحمد بنسودة الذي تقلد مهمة عامل ممثل لجلالة الملك الحسن الثاني بالعيون من 27 فبراير 1976 إلى أواخر 1977، إذ قام بنسودة بتعيين فاضل كأول أمين للتجار بالصحراء، عهد إليه أمر منح تراخيص المرور من عدمه لمن كانوا يمتهنون التجارة بالمنطقة أو العابرين منها.
بنت أول سيدة تنسج علم الجزائر تقيم في الرباط
في عام 1969 توقف الزعيم الجزائري مصالي الحاج، عند زيارته ابنته بالمغرب، أمام سفارة الجزائر بالرباط، وبقي شاردا، متكئا على عصاه، قرابة ساعة كاملة، وعيناه شاخصتان في العلم الجزائري يرفرف فوق البناية، سر هذه الوقفة التأملية ينطوي على قصة تستحق أن تروى.
يلوح الجزائريون في كل مناسبة وطنية برايتهم الوطنية البيضاء والخضراء، التي يشع من وسطها هلال ونجمة أحمران، وهي راية عرفوها قبل ثورة نونبر 1954. لكن هل يعلم الجزائريون أن هذه الراية خاطتها سيدة فرنسية ترددت كثيرا على المغرب، وهي زوجة الزعيم مصالي الحاج، وتدعى إيميلي بيسكان.
حسب الكاتب والإعلامي الجزائري محمد بن شيكو، في رواية عن إيميلي بيسكان عنوانها «المعطرة»، أن هذه السيدة «هي التي خاطت أول علم جزائري سنة 1929. أطلق بن شيكو اسم «المعطرة» على إيميلي بيسكان لأنها «كانت تبيع العطور ولوازم النساء في متاجر ريوني، أحد أعرق وأكبر متاجر العطور في باريس، وهناك التقت مصالي الحاج سنة 1923، عندما كان يعمل مساعدا في مصنع، فقبلت الزواج منه».
أوردت جنينة ابنة مصالي الحاج، في كتابها «حياة مشتركة مع والدي مصالي الحاج»، قصة ظهور الراية الوطنية، فكتبت «في 5 غشت 1934، شارك أكثر من 800 جزائري في جمعية عامة لنجم إفريقيا في باريس، وقد اكتست هذه الجمعية وقارا كبيرا، فلقد عرض فيها للمرة الأولى العلم الجزائري الأخضر والأبيض يتوسطه هلال ونجمة أحمران، وأمام هذا المشهد العظيم نهض الجزائريون كرجل واحد داعين ومصفقين.
مات مصالي المغضوب عليه من طرف بومدين، لكنه دفن في مسقط رأه تلمسان وحمل مطار هذه المدينة اسمه.
الفقيه زنيبر أول من ألح على لون العلم المغربي في الدستور
تقدم فقيه مغربي يدعى علي زنيبر بأول مشروع لدستور مغربي يراد به إصلاح الأوضاع السياسية في المغرب، كان ذلك سنة 1904، وتضمن إلزامية جعل العلم الأحمر شعارا وطنيا، فقد قدم الفقيه السلاوي مذكرة تدعو لإصلاح المخزن اختار لها كعنوان «حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال»، في زمن بدأ الفرنسيون يستعدون لبسط نفوذهم على المغرب.
وترجع فكرة جعل العلم الأحمر شعارا وطنياً، حسب الوثائق المتوفرة إلى سنة 1906، إذ قدم الفقيه علي زنيبر مذكرة أشار فيها إلى أن «العلم الأحمر هو رمز استقلال المغرب والمساواة بين أهله».
وحسب المحلل الدستوري محمد زين الدين، فإن «مذكرة الحاج علي زنيبر لم تأت بأي جديد يميزها عن المطالب التي سبقتها، كما أنها لا تشير، من بعيد أو قريب، إلى لفظ الدستور»، حيث كرست هذه المذكرة عدم اهتمام أصحاب هذه المطالب الإصلاحية بهذا الجانب، إذ جاءت بصياغة تقليدية يغلب عليها الطابع الفقهي إلى جانب غياب تنظيم محكم لمقتضياتها، كما يقول أستاذ القانون الدستوري في إحدى كتاباته. ركز علي زنيبر في مذكرته على حفظ الاستقلال ولفظ السيطرة والاحتلال «مستهدفا بالدرجة الأولى حماية المغرب من كل الأطماع الأجنبية عن طريق إصلاح الجيش وخلق نظام ضريبي قائم على المساواة وتوظيف اللغة العربية في جميع المؤسسات الحكومية وإنشاء بنك الدولة».
وتقول الروايات التاريخية إن فقهاء آخرين تناولوا قضية العلم كرمز للسيادة على غرار عبد الله بنسعيد، وقبله فقيه يدعى الطرابلسي جاء من الشرق. لكن زنيبر الذي كان موضوع أبحاث جامعية خاصة حين يتعلق بتاريخ مدينة سلا، علما أن فقيهنا قضى فترة طويلة في المشرق العربي.
عند عودته سنة 1904 إلى المغرب استقر علي زنيبر في طنجة واقترب من دار المندوبية وزارة الخارجية واهتم بطبع ونشر الصحف والكتب، ورغم انتقاله إلى فاس ظل على اتصال وطيد بعلماء سلا ووجهائها، وقد تمكن من جمع الكثير من الوثائق والمعاهدات الدولية في شأن الحياة السياسية المغربية، كما جاء في أطروحة في الموضوع.
طالب زنيبر بالحفاظ على الهوية الوطنية، وضمنها الحفاظ على اللغة العربية ورفض نظام الحماية الأجنبية للأشخاص «حتى يكون المغاربة سواسية أمام القانون جميعهم وبدون استثناء». وطالب بحكومة مسؤولة عن القطاعات الحيوية للبلاد واختيار الموظفين من بين الكفاءات وخضوعهم للمراقبة والمتابعة وتحضير ميزانية سنوية وإدخال التقنيات المتطورة في جميع المجالات، بما فيها النصوص القانونية المؤطرة للعمل الحكومي، ومنها التنظيمات المالية والمحاسباتية.