مشهد دبلوماسي استثنائي يعكس تقاربا ثنائيا لافتا وإشارات إلى تحولات استراتيجية على مستوى العلاقات البينية، وجّه الرئيس العراقي عبد اللطيف جمال رشيد دعوة رسمية إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس للمشاركة في القمة العربية الرابعة والثلاثين، المزمع عقدها في بغداد يوم 17 ماي المقبل، وهي الدعوة التي تأتي في ظرف إقليمي حساس، وفي توقيت يضفي عليها طابعا رمزيا قويا، إذ تفتح الباب أمام احتمال أن يُسجل الملك محمد السادس أول حضور شخصي له في القمم العربية منذ قمة الجزائر سنة 2005، بل وأول زيارة لعاهل مغربي إلى العراق منذ عقود طويلة، الأمر الذي من شأنه أن يكسر واقع الغياب الملكي المستمر عن المنتديات العربية الجماعية، ويبعث بإشارات دبلوماسية مدروسة عن إعادة تموضع المغرب في فضائه العربي.
هذا التطور الدبلوماسي، الذي حملته الدعوة التي سلّمها نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي، محمد علي تمام، إلى وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، خلال لقاء جمعهما في الرباط، لا يمر دون أن يثير اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية، التي تترقب ما إذا كان الملك سيقبل دعوة بغداد، في خطوة من شأنها أن تعيد رسم ملامح الحضور المغربي على الساحة العربية، وتُعيد بعث علاقات الرباط ببغداد بعد سنوات من الفتور والانقطاع ثم العودة وتعزيز العلاقات الثنائية، في ظل تحولات متسارعة تعرفها ملفات محورية مثل القضية الفلسطينية، والوحدة الترابية للمغرب، والدور الإقليمي المتنامي للعراق بعد عقود من العزلة.
وتتمتع العلاقات المغربية العراقية بجذور تاريخية ضاربة في العمق، إذ تعود إلى ما قبل حصول المغرب على استقلاله، حين كانت بغداد من أوائل العواصم العربية التي أعلنت دعمها الصريح لنضال المغاربة ضد الاستعمار الفرنسي، واحتضنت الحركة الوطنية المغربية سياسيا وإعلاميا، وقد تُوّج هذا الدعم المبكر بتعيين أول سفير عراقي في الرباط سنة 1956، مباشرة بعد إعلان الاستقلال، في مؤشر واضح على المكانة التي حظي بها المغرب لدى النخبة السياسية العراقية آنذاك.
وفي يناير من سنة 1960، سجل التاريخ واحدة من أبرز اللحظات الرمزية في العلاقات بين البلدين، عندما قام الملك الراحل محمد الخامس بزيارة رسمية إلى بغداد، ليكون بذلك أول عاهل مغربي يزور العراق، وهي الزيارة التي لقيت حينها احتفاء واسعا وكرّست آنذاك التوافق السياسي العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث كان طموح بناء مشروع قومي عربي موحد لا يزال حيًّا في الوجدان الجماعي.
لكن، هذه العلاقات التي اتسمت في بداياتها بالدفء والدعم المتبادل، لم تَسلم من التوترات في العقود الأخيرة، وبلغت إحدى ذرواتها سنة 2005، عندما اهتز الرأي العام المغربي والعربي على وقع حادث مأساوي تمثل في اختطاف اثنين من موظفي السفارة المغربية في بغداد واغتيالهما في ظروف غامضة، وذلك بعد الغزو الأمريكي للعراق والانفلات الأمني الذي أعقبه.
وقد أدى هذا الحادث إلى تدهور حاد في العلاقات الدبلوماسية، واضطر المغرب إلى إغلاق سفارته في العاصمة العراقية ونقل تمثيله إلى عمّان، لتدخل العلاقات الثنائية في مرحلة جمود طويلة امتدت لما يقارب عقدين، طغى عليها الحذر والتريث، في ظل تعقيدات الوضع العراقي الداخلي وتباين المقاربات السياسية بين الرباط وبغداد.
وبعد سنوات طويلة من الجفاء والتحفظ، دخلت العلاقات المغربية العراقية مرحلة جديدة من التقارب والانفتاح السياسي، تُوّجت بإعادة فتح السفارة المغربية في بغداد في يناير 2023، بعد إغلاق دام 18 عاما بسبب الأوضاع الأمنية المعقدة التي عاشها العراق عقب الغزو الأمريكي، وقد اعتُبرت هذه الخطوة تحولا نوعيا ورسالة سياسية واضحة تعبّر عن استعادة الثقة التدريجية بين الرباط وبغداد، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة آنذاك، واصفًا القرار بأنه “إشارة قوية على ثقة المغرب في العراق الجديد واستقراره المؤسساتي والأمني.”
الزيارة التي قادت بوريطة إلى بغداد كانت أيضا فرصة لإعادة ضبط البوصلة السياسية للعلاقات الثنائية، حيث عبّرت الحكومة العراقية بشكل رسمي عن دعمها للوحدة الترابية للمغرب، مُعلنة تأييدها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي التي تقترحها الرباط كحل واقعي ومتوافق عليه لإنهاء نزاع الصحراء المفتعل، وهو موقف شكّل اختراقا دبلوماسيا مهما للمغرب في الساحة المشرقية التي لطالما اتسمت مواقف بعض دولها بالتحفظ أو الحذر في هذا الملف تجنبا لإغضاب الجزائر الراعي الرسمي للجبهة الانفصالية.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت مؤشرات التقارب تأخذ طابعا عمليا، من خلال توقيع مذكرة تفاهم بشأن الإعفاء المتبادل من التأشيرات لحملة جوازات السفر الدبلوماسية، والاتفاق على عقد الدورة الـ11 للجنة المغربية العراقية المشتركة في بغداد، وهو ما يعكس إرادة سياسية متبادلة لإعادة بعث العلاقات الثنائية على أسس متينة.
كما تم خلال اللقاءات المتبادلة طرح إمكانيات التعاون الاقتصادي والتجاري، وتدارس فكرة إطلاق خط جوي مباشر بين البلدين، في خطوة ترمي إلى تيسير التبادل التجاري والإنساني، وتعزيز حضور المغرب في السوق العراقية التي تعرف انفتاحًا متزايدًا على الشراكات العربية، وكل هذه المؤشرات مجتمعة تؤكد أن العلاقات المغربية العراقية دخلت مرحلة ما بعد الجمود، نحو شراكة سياسية واقتصادية متدرجة، لكنها تتأسس على ثقة متبادلة ورؤية مشتركة لقضايا السيادة والوحدة الترابية.
وإذا ما قرر الملك محمد السادس تلبية الدعوة العراقية وحضور القمة العربية الرابعة والثلاثين المرتقبة في بغداد، فإن هذه الخطوة لن تكون مجرد مشاركة دبلوماسية عابرة، بل ستحمل في طياتها أبعادا سياسية وتاريخية عميقة قد تعيد تشكيل ملامح الحضور المغربي في الفضاء العربي المشترك.
فمن جهة، ستكون هذه أول زيارة لعاهل مغربي إلى العراق في التاريخ الحديث، إذ لم يسبق للملك محمد السادس أن زار هذا البلد منذ اعتلائه العرش سنة 1999، مما يجعل احتمال مشاركته في قمة بغداد محطة استثنائية بكل المقاييس، ومن جهة ثانية، سيمثل هذا الحدث أول حضور فعلي له في قمة عربية منذ مشاركته الوحيدة في قمة الجزائر عام 2005، بعد عقدين من الاكتفاء بإيفاد ممثلين سامين عنه، ما رسّخ انطباعا لدى كثيرين بأن الرباط تُفضل البُعد عن قمم تهيمن عليها الخلافات الشكلية أكثر من الفعل السياسي الجماعي.
لكن الحضور المحتمل للعاهل المغربي في بغداد لن يُقرأ فقط من زاوية رمزية أو بروتوكولية، بل سيُعتبر بمثابة تحوّل استراتيجي في تموضع المغرب داخل النظام الإقليمي العربي، خصوصا في ظل التحديات التي يواجهها العالم العربي وغياب رؤية مشتركة لقضايا مركزية كالقضية الفلسطينية، والأمن الإقليمي، والوحدة الترابية للدول سيّما في ظل استمرار بعض الدول في استهداف سيادة دول عربية أخرى على غرار ما يحدث بالنسبة للنزاع المفتعل حول الصحراء الذي ترعاه الجزائر ضد المملكة.
وقد يُنظر إلى هذه المشاركة، في حال تمت، على أنها رسالة دعم قوية للعراق الجديد، الذي يسعى لاستعادة دوره في الحاضنة العربية بعد سنوات من الانكفاء والانقسامات، كما أنها ستبعث بإشارات واضحة على رغبة الرباط في الإسهام بفعالية أكبر في بلورة مقاربة عربية جماعية قادرة على مواجهة التحديات المتعددة، سواء في ما يتعلق بإصلاح العمل العربي المشترك، أو تعزيز التعاون جنوب-جنوب في ظل تحولات النظام العالمي.
وستُتابع هذه المشاركة، إن حصلت، بعيون متحفزة من عدة عواصم عربية، إذ من شأنها أن تُعيد الزخم إلى الحضور المغربي في المشهد العربي الرسمي، وتُؤكد أن الملك محمد السادس، رغم تحفظه على بعض الأشكال التقليدية للدبلوماسية العربية، لا يزال فاعلا محوريا حين تدعو الضرورة إلى رسم معالم مسار جديد داخل العمل العربي المشترك.