• اتصل بنا
الجمعة 23 مايو 2025
جسر بريس
Sahara Banner
  • الرئيسية
  • الوطنية
  • سياسة
  • قضايا المجتمع
  • رياضة
  • مال وأعمال
  • مغاربة العالم
  • آراء وتحليلات
  • فن وثقافة
  • صوت وصورة
  • الصحراء المغربية
لا توجد نتائج
View All Result
جسر بريس
لا توجد نتائج
View All Result

نهاية الماكرونية على يد المخزن

أفق جديد نهاية الماكرونية!

جسر بريس بواسطة جسر بريس
2023-09-30
النشر على الفايسبوكالنشر على تويترارسل عبر الواتساب

عزالدين السريفي، رئيس التحرير والاعداد

المقصود هنا بـ “الماكرونية” نهج الحكم الذي اتبعه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، منذ انتخابه رئيسا على فرنسا عام 2017 قادما من عالم المال والأعمال، ما مثّل آنذاك ثورةً على الأحزاب السياسية الفرنسية التقليدية التي كانت موزّعة ما بين اليمين واليسار، فجاءت “الماكرونية” نزعةً لا يمينية ولا يسارية، ليبرالية وفي الوقت نفسه، تقوم على مركزية الدولة، سلطوية ومنفتحة، مزيج من الوسطية والديغولية، نسبة إلى الزعيم الفرنسي شارل ديغول، لكنها ديغولية بدون روح. تقدّمية في القضايا الاجتماعية، ومتدخّلة على المستوى الاقتصادي، وبراغماتية على المستوى السياسي.

لعل ذلك يُفسِّر لنا الاهتمام السياسي والإعلامي الكبير الذي سيطر على الداخل الفرنسي تجاه المغرب تحديدا، حتى مع ظهور أخبار عن فاجعة أخرى تعيشها أرض عربية ثانية، حين ضرب الإعصار دانيال ليبيا مخلفا حصيلة إنسانية ومادية ثقيلة. لم تتوجه العدسات حينئذ إلى الشرق، بل ظلت مركزة على المغرب، وليس على مخلفات الزلزال المادية والبشرية، بل على مخلفاته السياسية، التي انطلقت من مراكش، ووصلت إلى باريس نفسها. ويبدو أن علاقة الأخيرة بالعاصمة المغربية الرباط دخلت في نفق مسدود، على الأقل في الفترة التي يقطن فيها الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه.

بعد ورود الأخبار الأولى مباشرة عن زلزال المغرب، بدأت الدول في التعبير عن استعدادها لمدّ يد المساعدة للرباط من أجل البدء الفوري في عملية الإسعاف وإنقاذ العالقين تحت الأنقاض أو ربما انتشال جثث من لم يسعفهم القدر للهروب قبل فوات الأوان. وقد أعلن المغرب عقب كل هذه العروض إعطاء (1) الضوء الأخضر للحضور وقبول العون من 4 دول: إسبانيا، الجار صاحب العلاقات الممتازة مؤخرا مع المملكة، ثم بريطانيا، التي لم تعد عضوا في الاتحاد الأوروبي، ثم قطر والإمارات العربية المتحدة، الدولتان العربيتان الصديقتان. وحملت اللائحة مفاجأة ثقيلة، إذ لم تكن فرنسا من بين الدول الصديقة التي سمح لها المغرب بالمساهمة في تقديم المساعدات الإنسانية.

لم تستسغ فرنسا -أو، على وجه الدقة، لم يستسغ إعلامها- استبعاد باريس من القائمة، وهي “الصديق” القريب القديم الذي لطالما ربطته علاقات متينة بالرباط، ولذلك بدأت الماكينة الإعلامية الفرنسية في تصويب السهام تجاه المغرب متخفية وراء سؤال يبدو بريئا: “لماذا رفض المغرب المساعدات الصديقة من فرنسا؟”، بيد أن إجابة هذا السؤال لم تكن بالبراءة نفسها، فقد شهدت المنابر الإعلامية هجوما مباشرا على المغرب ونظامه السياسيّ في الآونة الأخيرة.

شكّل وجه سيدة مغربية تدعى “تورية” رمزا واضحا لهذه التغطية الإعلامية، حينما نشرت صحيفة “ليبيراسيون” (2) صورتها على صفحتها الأولى معنونة: “ساعدونا، نحن نموت في صمت”. في الحقيقة، وببعض من البحث، نجد أن الصورة التي نُشِرَت لا تمت للعنوان بصلة، فالسيدة بَطَلة الصورة أبدت امتعاضها من استغلال لحظة بكائها بهذه الطريقة. وتحكي “تورية” (3) أنها سمعت بعض الأصوات والضجيج، فخرجت من منزلها من أجل فهم ما يحدث، لكن وبمجرد خروجها سقط سقف منزلها، ما تسبب لها بصدمة جعلتها تصرخ: “السقف، السقف”، ولكن في هذه اللحظة شديدة الصعوبة، كانت عدسة مصور الوكالة الفرنسية للأنباء تتجه نحوها، ملتقطة صورة تناقلتها وسائل الإعلام الغربية.

لم تكتفِ الصحيفة الفرنسية بهذه الصورة التي أثارت نقم الرأي العام المغربي، بل نشرت أيضا رسما كاريكاتوريا مسيئا للملك محمد السادس متهمة إياه بعدم الإحساس بالمعاناة التي يعيشها ضحايا شعبه تحت الأنقاض. وقد خصصت صحيفة “لوموند” مقالا كاملا (4) يحمل لهجة هجومية واضحة على الملك بزعم تفرده بالقرارات الحاسمة التي لا تخرج إلا من القصر الملكي، وفي مقالها تتبعت “لوموند” خط سير الملك المغربي الذي زار فرنسا في الوقت نفسه الذي ضرب فيه الزلزال منطقة الحوز، قبل العودة إلى المغرب لعقد اجتماع طارئ لتدارس الوضع القائم، وذلك للتعبير عن تفرد الملك بالسلطة حتى في الأزمات، وذلك بدلا من الإشارة إلى الحضور الشخصي للملك كنوع من تحمل المسؤولية والأخذ بزمام المبادرة.

بدأت ردود الفعل المغربية على هذا الاستهداف الفرنسي تظهر بوضوح بعدئذ، فقد أدان الإعلام المغربي ما أسماه بـ”الحملة المسعورة” التي دفعت الإعلام في فرنسا إلى فقدان صوابه المهني وابتزاز المغرب بأزمة الزلزال، مُتجاهلا جميع التوضيحات التي قدمتها المملكة المغربية لشرح سياستها في معالجة الأزمة، والاكتفاء بالتركيز على “رفض المغرب المساعدة الخارجية”، رغم قبول الرباط المساعدة من 4 دول أخرى.

وقد اشتعلت أيضا وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب تجاه فرنسا بعد انتشار مقطع فيديو لـ”سميرة سيطايل”، المديرة السابقة للقناة المغربية الثانية، التي حلت ضيفة على قناة “BFM” الإخبارية الفرنسية، حيث ردَّت الصحفية المغربية بحدة ملحوظة على مضيفيها، وشكَّكت في الرسائل الإعلامية الفرنسية، قائلة إنها تريد حشد الشعب المغربي ضد دولته وعلى رأسها الملك. كما خرج الإعلامي الفكاهي المغربي اليهودي الشهير “جاد المالح”، الذي أجاب (5) عن سؤال وجهته له صحفية فرنسية حول إحساسه بوصفه مواطنا مزدوجَ الجنسية بما يحدث في المغرب، حيث قال: “أنا لست مزدوج الجنسية، أنا مغربي مهاجر، أحب فرنسا كمهاجر”.

ثم تواصلت ردود الفعل الغاضبة، لكن على مستويات أعلى هذه المرة بخروج (6) “الصديق معنينو”، الكاتب العام السابق لوزارة الاتصال، وأحد أهم المقربين من القصر في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بتصريح وصف به إيمانويل ماكرون بـ”المراهق غير المسؤول”. وقد قال معنينو في مقطع نشره بعيد الأحداث إن الإعلام الفرنسي لم يحترم شهداء المغرب ولا حزن المغاربة والمحنة التي يمرون بها، مشيرا إلى نقطة وصفها بالمهمة، وهي خروج ماكرون في فيديو توجه فيه بالكلام إلى المواطنين المغاربة مباشرة، وهو ما اعتبره سابقة خطيرة في العلاقات الدولية.

ليس صدفةً رَفْضُ المغرب الالتفات لمساعدات فرنسا، بل للقرار إشارات سياسية لا تخفى على كل من تابع العلاقات المتدهورة بين الرباط وباريس في الفترة الأخيرة، والتي تزيد تدهورا في كل يوم جديد لماكرون في الإليزيه. ولنبدأ من النهاية، حين قرر الملك محمد السادس إنهاء مهام محمد بنشعبون بصفته سفيرا للمغرب في فرنسا في فبراير/شباط الماضي، بعد أقل من سنتين من تعيينه، ومنذ ذلك الحين لا يملك المغرب سفيرا في فرنسا. وقد جاء (7) الإعلان الرسمي بعد شهر تقريبا من حزم بنشعبون حقائبه الدبلوماسية والعودة إلى الرباط، في اليوم ذاته الذي قرر (8) فيه الاتحاد الأوروبي إقرار توصية غير ملزمة تنتقد تدهور حرية الصحافة في المغرب، حيث طالبت التوصيات باحترام حرية التعبير وحرية الإعلام وضمان المحاكمات العادلة للصحفيين المعتقلين.

توجهت أصابع الاتهام المغربية نحو جهات فرنسية يُعتقَد أنها دفعت بهذا التحرك الأوروبي، الذي رأت فيه الرباط نيلا من سمعتها الحقوقية. وفي حين ذكرت مصادر إعلامية فرنسية (9) أن السفير المغربي السابق لم يحقق نجاحات كبيرة على مستوى ربط العلاقات مع رجال السياسة في فرنسا، فإن هذا لم يكن السبب الحقيقي -دون أدنى شك- في أن يُنهي الملك سفارة ممثل المملكة في باريس، بقدر ما هي الأزمات التي تتالت على الحبال المهترئة بين البلدين، وسبقت رحيل السفير المغربي من باريس.

تتلخص الأزمة بين المغرب وفرنسا في ثلاث مراحل (10): أولها قضية “بيغاسوس” (11) الشهيرة، التي اتهمت فيها وسائل إعلامية فرنسية المغرب بالتجسس على سياسيين في فرنسا، وعلى رأسهم الرئيس ماكرون حسب التحقيق الصحفي الذي شاركت فيه 16 مؤسسة صحفية من بينها مؤسسات إعلامية فرنسية بالاشتراك مع منظمة “فوربيدِن ستوري”. وقد نفى المغرب نفيا قاطعا تورطه في شراء هذا البرنامج الإسرائيلي، ورفع قضايا أمام محكمة الجنايات بباريس ضد منظمتَي العفو الدولية و”فوربيدن ستوريز” وصحيفة “لوموند” وموقع “ميديا بارت” ثم أخيرا “راديو فرانس”.

بجانب قضية “بيغاسوس”، شكلت قضية التأشيرات (12) أزمة خانقة بين المغرب وفرنسا بعد قرار الأخيرة تقليص عدد التأشيرات التي تمنحها للمغاربة، وذلك بسبب رفض الرباط في وقت سابق استقبال المهاجرين غير النظاميين من المغاربة دون خضوعهم لاختبار كوفيد-19 كما نصَّ البروتوكول عام 2021، وحينها لم تحاول فرنسا تجميل ردة فعلها، بل خرج وزير داخليتها “جيرار دارمانان” لتأكيد هذا الابتزاز الدبلوماسي، وهو ما لم يستسغه المغرب. وقد قالت (13) فرنسا بعد ذلك إن مشكلة التأشيرات مع المغرب انتهت تماما كما هو الحال مع الجزائر وتونس. إلا أن أزمة الحصول على التأشيرة الفرنسية ما زالت قائمة لدى المغاربة، فقد أصبح الحصول على موعد للتقديم، وليس للحصول على التأشيرة، ضربا من الخيال، وانتشرت الأسواق السوداء لإيجاد موعد قريب لوضع ملف سيتم في غالب الأمر رفضه دون إبداء أي أسباب.

علاوة على ذلك، تأتي القضية الأهم واضعة أكثر من علامة استفهام حول العلاقات بين المغرب وفرنسا، وهي قضية الصحراء، حيث يصف المغرب الموقف الفرنسي بالرمادي، فلم تُعلِن باريس موقفا واضحا من هذا الملف في الوقت الذي تمكَّنت فيه الرباط من الحصول على اعترافات دبلوماسية للعديد من القوى بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المغربية. ويعتبر المغرب قضية الصحراء جوهريةً في تحديد الأصدقاء من الأعداء، لكن فرنسا لم تحدد موقفها بوضوح، بل اكتفت بما قالته وزيرة الخارجية الفرنسية “كاترين كولونا” أثناء زيارتها للمغرب في دجنبر الماضي بالتأكيد (14) على دعم مخطط الحكم الذاتي الذي سبق أن تقدم به المغرب.
تريد فرنسا الإبقاء على مصالحها قائمة مع المغرب، لكن مع الحفاظ على سياستها ونظرتها الخاصة لقضية الصحراء المغربية. ومن جهتها ترى الرباط أن الرقص على جميع الحبال لم يعد مسموحا به في العلاقات الخارجية، وهو ما أكده “عزيز أخنوش”، رئيس الحكومة المغربية، في مقابلة سابقة له مع صحيفة “لوبينيون” (15) الفرنسية، خصوصا بعد أن اعترفت دول عظمى تتقدمها أميركا بمغربية الصحراء.

في أكثر من مناسبة، خرج إيمانويل ماكرون للحديث عن زلزال المغرب، وأكد غير مرة أن بلاده ستقدم المساعدة بمجرد أن يطلبها المغرب، كما خرج للمطالبة بعدم تحميل الأزمة ما لا تحتمل. وبرغم دعوات التهدئة هذه، فإن جميع الدلائل تشير إلى أن العلاقة بين القصر المغربي وماكرون وصلت إلى طريق مسدود. ويقول موقع “ماروك أنتلجنس” (16) نقلا عن مصادره إن دائرة الحكم المقربة من “الإليزيه” تدرك جيدا أن ماكرون أضر بالعلاقات المغربية-الفرنسية، وهو ما دفع القصر في المغرب إلى طي صفحته. وحسب الموقع نفسه فإن مكالمة هاتفية عاصفة قصمت ظهر الود بين البلدين، بعد أن طالب ماكرون أثناء اتصاله بالعاهل المغربي توضيحات بخصوص صحة أخبار تجسس المغرب على هاتفه الشخصي، وحينها أجاب الملك محمد السادس بأنه يعطي “كلمة ملك” تؤكد براءة المغرب، لكن رد ماكرون “لم يكن يليق برئيس دولة”، ولذلك أغلق الملك محمد السادس الهاتف، ومنذئذ وهو يرفض لقاء الرئيس الفرنسي أو التواصل معه هاتفيا.

ثم سطعت شمس الخصومة واضحةً بعد أزمة زلزال الحوز، رغم الظهور الإعلامي المُنمَّق لماكرون، وإصرار وزيرته للخارجية على نفي كل ما يؤثر سلبا على العلاقات بين بلادها والمملكة، وتصريحها (17) بأن ماكرون تلقى دعوة لزيارة المغرب وكل ما يلزم هو إيجاد التاريخ المناسب لقبول هذه الدعوة. لم يتأخر الرد المغربي كثيرا، فقد نقلت (18) وكالة المغرب العربي للأنباء عن مصدر حكومي قوله إن زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للمملكة ليست مدرجة في جدول الأعمال، وقالت الوكالة المغاربية إن مصدرها استغرب من هذه “المبادرة الأحادية” التي منحتها وزيرة الخارجية الفرنسية لنفسها عبر إعلان هذه الزيارة دون مشاورة الطرف المغربي.

أتى الرد المغربي كاشفا لموقف المغرب، الذي استثمر زلزال الحوز من أجل تأكيد موقفه من ماكرون وفرنسا، وتسليط الضوء على تدهور علاقات الرباط بباريس، وإظهار حقيقة أن الحاجة إلى الشريك الفرنسي لم تعد مسألة حياة أو موت كما كانت في السابق. وكما كتبت (19) “ليكسبريس”، أظهر المغرب أنه يمكن إرسال آلاف الطلبة إلى فرنسا دون وجود سفير هناك، ويمكن للملك أن يأتي لفرنسا ويقيم في فندق دون الحاجة للتنسيق مع الحكومة الفرنسية، كما يمكن التعويل على دول عربية وإسلامية مثل قطر والإمارات في أزمة قوية مثل الزلزال دون الحاجة إلى باريس، وأن أي حديث عن علاقات ودية للمغرب مع فرنسا لن يُفتح غالبا قبل خروج ماكرون من قصر الرئاسة الفرنسي.

حملت “الماكرونية” في بدايتها آمالا كبيرة بالنسبة للفرنسيين من خلال وعودها بتحقيق النمو للاقتصاد والتقدّم لفرنسا، لكن بعد ست سنوات يبدو الواقع أكثر تشاؤما، والرؤية غير واضحة أمام الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي تعيش على وقعها البلاد منذ وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه، من ثورة السترات الصفراء إلى انتفاضة الفرنسيين ضد نظام التقاعد مرورا بأعمال الشغب الحضرية، تضاف إلى ذلك الأزمات الكبيرة التي مرّت بها البلاد من أزمة كوفيد إلى الحرب الأوكرانية والجفاف الناتج عن التغيّرات المناخية الكبيرة التي لا تجد لها أجوبة في السياسة البيئية للرئيس الذي أصبح فاقدا زمام المبادرة أمام أسئلة عديدة معقّدة تواجهه خلال السنوات الأربع المقبلة من ولايته الثانية في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والشرطة والعدالة. لكن أكبر تحدٍّ يواجه الرئيس الفرنسي اليوم إعادة فرض اسم فرنسا قوة دولية عظمى، بعد أن فقدت الكثير من قوّتها ونفوذها وهيبتها حتى داخل مستعمراتها القديمة التي كانت، حتى الأمس القريب، تأتمر بأمرها وتسعى إلى طلب ودّها وحمايتها.

وعلى المستوى الداخلي، جاءت الماكرونية جوابا على الاستقطاب الذي يمزّق فرنسا بين يسار مترهل ويمين متطرّف، ووعدت بتخليص البلاد من الانقسامات الأيديولوجية التي عفا عليها الزمن، في محاولة لإنجاز ما هو أجدى وأهم، أي النهوض بالاقتصاد لإعادة بناء فرنسا قوية، لكن كل هذه الأحلام يبدو أنها تبخّرت، بعد أن وضعت السياسة نفسها البلاد أمام أخطر حالة اختلال في التوازن، منذ خسارتها أغلبيتها المطلقة داخل الجمعية الوطنية، ما أدّى إلى ظهور هشاشة الحكم وهشاشة الحاكم نفسه أمام ضربات المعارضة القوية من اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي.

أكبر الخاسرين من نهاية الماكرونية اليسار الضعيف والمنقسم، ما سيمهّد لحكم تحالف المحافظين الجدد واليمين المتطرّف

لم تظهر بدايات فشل الماكرونية اليوم، وإنما حملتها معها منذ بدايتها على شكل تناقضات كبيرة هي ذاتها تلك المتأصّلة في ما تسمّى “الليبرالية الجديدة التقدّمية”، التي كان يُنظر إليها الحصن الحصين ضد الشعبوية اليمينية المتطرّفة، والجواب الشافي على الفشل الذي مُنيت به الأحزاب الليبرالية واليسارية التقليدية. وأكبر خطأ ارتكبه ماكرون اعتقاده أن خلفيّته الاقتصادية مصرفيًا استثماريًا سابقًا تُغنيه عن كل الانتماءات السياسية، وأن برنامجًا مؤيدًا للأعمال وخاليا من الأيديولوجيا قادر على إيجاد حلول للمشكلات التي كانت البلاد تتخبّط فيها، وأدار الحكم كما لو أنه يرأس مجلس إدارة شركة ضخمة، معتمدا على فكرةٍ تبدو ساذجة، مفادها بن تحرير الاقتصاد وتخفيف الدولة من جميع الأعباء الاجتماعية هي الطريق الأسرع لإعادة بناء قوة فرنسا العظمى. لذلك أحاط نفسه بالخبراء والتكنوقراط ومكاتب الخبرة التي نصحته بأن الطريق إلى بناء فرنسا قوية اقتصاديا يمرّ عبر التخلي عن دولة الرفاه الاجتماعي المكلفة ماليا لميزانية البلاد، فوجد نفسَه في مواجهة اضطرابات الشارع التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، حتى عمّت البلاد فوضى عارمة، كانت آخرها اضطرابات الأحياء الهامشية والإضرابات الضخمة المعارضة لنظام التقاعد الذي فرضه الرئيس بمرسوم جمهوري عمودي فوقي.

حمل أسلوب الحكم هذا معه التناقضات المتأصّلة في النيوليبرالية التقدّمية، بما أنه لم يكن سوى نسخة مشوّهة منها. وسوف تظهر بوادر فشله الاقتصادي في الإصلاحات التي باشرها، ولم تؤدّ إلى ما كان مأمولا منها، وجاء أكبر تجلٍّ لفشله سياسيا في الانتخابات التشريعية أخيرا والتي شكلت هزيمة غير مستساغة للرئيس الفرنسي المتعجرف جعلته هدفا سهلا تحت رحمة الانتقادات القاسية لمعارضيه من اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي داخل البرلمان الفرنسي، لا يجد وراءه سوى حكومةٍ من التكنوقراط من أصحاب الولاءات له الذين يفتقرون إلى النفوذ السياسي اللازم لحماية أنفسهم وحمايته، بما أنه يكاد يكون بدون أتباع، لأن حزبه “الجمهورية إلى الأمام” قبل أن يغيّر إسمه إلى “النهضة”، وُجد من عدم بدون أيديولوجية يلتفّ حولها الناس، وبدون قاعدة اجتماعية حقيقية. كما أن نهجه العمودي في السلطة، والذي تجلّى على أفضل نحو من خلال إدارته الأزمات الاجتماعية التي شهدها عهده وأدارها من خلف الأبواب المغلقة، بالإضافة إلى غطرسته المُفرطة ونرجسيته السياسية البحتة وشخصيته التي ترفض تقديم أي نوعٍ من التنازلات، كلها أمور تركته معزولًا ومكشوفًا، ما يهدّد بتحويل ولايته الثانية إلى جحيم، بعد أن تحطمت كل طموحاته في الإصلاح… لذلك المقصود في عنوان هذه المقالة بـ “نهاية الماكرونية” نهاية أسلوب الحكم العمودي للبلاد الذي اعتمده الرئيس الفرنسي طوال ولايته الأولى، عندما كان مسنودا بأغلبية مريحة داخل البرلمان. ومنذ بداية ولايته الثانية، وهو يراكم الأخطاء تلو الأخرى، حتى بات بدون رؤية واضحة، أو على الأقل الرؤية التي كان يدّعي امتلاكها لخلاص فرنسا اصطدمت بالواقع الذي لا يرتفع: الوباء، والحرب في أوكرانيا، وانقسام الشارع الفرنسي، والاضطرابات الاجتماعية الداخلية، وتراجع النفوذ الفرنسي على الساحة الدولية، فالنكسات المتتالية لسياسات ماكرون على أكثر من صعيد لا تكشف فقط عن نقاط ضعف نهجه “الماكرونية”، بل إنها تشكّك أيضًا في بقائها ذاته، لكن الأخطر من ذلك أن نهايته سوف تخلّف خاسرين كثيرين وفائزين كثيرين، وأكبر الخاسرين هم اليسار الضعيف والمنقسم، ما سيمهّد الحكم لتحالف المحافظين الجدد واليمين المتطرّف، وهو ما سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش النيوليبرالية التقدّمية، وبالتالي، نهاية شيء كان اسمه “الماكرونية”.

مشاركة204غرد128ابعث
جسر بريس

جسر بريس

اترك تعليقاً إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

24 ساعة

“المغرب يصنع درعه الخاص: تحالف ناري مع سلوفاكيا لاقتحام صناعة السلاح في إفريقيا”

عمر هلال يتصدى للجزائر في الأمم المتحدة ويطالب بإغلاق ملف الصحراء نهائيًا

“الرباط وبراتيسلافا تفجّران دينامية جديدة: تحالف استراتيجي يربط قلب أوروبا ببوابة إفريقيا”

زيدان يدافع عن مصطفى لخصم ويشيد بتجربة المغرب الاستثماري

الجزائر تنسخ البرامج التنموية المغربية: تقليد أم اعتراف ضمني بالهزيمة

تحقيق استقصائي: أشغال ميدانية تثير الجدل في تيفلت – تعدٍ محتمل على ملكية خاصة بلا سند قانوني

الأكثر مشاهدة

  • الجزائر سيفقد مورده الاقتصادي الرئيسي بعد شراء الإمارات شركة ناتورجي

    4856 مشاركات
    مشاركة 1942 غرد 1214
  • بعد جدل حول مخترع سيارة بالهيدروجين.. مغربي أم جزائري؟ اليكم الجواب “الصورة”

    3267 مشاركات
    مشاركة 1307 غرد 817
  • مدينة الجزائر كانت مجهولة والمغاربة هم من صنعوا شهرتها

    882 مشاركات
    مشاركة 353 غرد 221
  • “الزربة” وهبي تصنع الفوضى.. وهذه المرة مّس السياسة الخارجية للمغرب وأعطى للجزائر ساعات من البروباغندا الإعلامية، و بوريطة يصلح ما أفسده

    820 مشاركات
    مشاركة 328 غرد 205
  • أكبر سفينة تصل المغرب خلال أيام للتنقيب عن الغاز بسواحل العرائش

    787 مشاركات
    مشاركة 315 غرد 197
  • اتصل بنا
جسركم إلى الوطن وجسر الوطن إليكم

Copyright © 2023 Jisrpress

لا توجد نتائج
View All Result
  • الرئيسية
  • الوطنية
  • سياسة
  • قضايا المجتمع
  • رياضة
  • مال وأعمال
  • مغاربة العالم
  • آراء وتحليلات
  • فن وثقافة
  • صوت وصورة
  • الصحراء المغربية

Copyright © 2023 Jisrpress