تنفست أوروبا الصعداء في وقت متأخر من ليلة الإثنين، بعد الساعة العاشرة ليلاً، عندما أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من الحزب المسيحي الديموقراطي، وقادة الاتحاد المسيحي الاجتماعي، وهو الحزب البافاري الشقيق للحزب المسيحي الديمقراطي، عن توصلهم إلى تسوية بشأن سياسات الهجرة. فقد استمر الصراع الذي طالب فيه البافاريون بإحكام الحدود الألمانية في مواجهة اللاجئين لأسابيع عدة حتى وصل الأمر في النهاية للتهديد بإسقاط الحكومة. كان الاتحاد الأوروبي سيفقد في حالة سقوط ميركل، ولو مؤقتاً واحداً من آخر داعميه الشجعان، في وقت تنمو فيه القوى غير الليبرالية بشدة. ولكن هل انتهت الأزمة بالفعل؟ هل يمكن لألمانيا وأوروبا أخيراً أن تتنفسا مجدداً؟ بالكاد. لقد وقع الضرر بالفعل وآثاره ستبقى. التفسير السطحي للأزمة، هو أن الاتحاد الاجتماعي المسيحي بولاية بافاريا (C.S.U) والذي يتأهب لخوض انتخابات الولاية في أكتوبر/تشرين الأول، أراد دعم قاعدته المحافظة في مواجهة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف (A.f.D). لكن هذه الأزمة تحمل أكثر من ذلك بكثير. في الأسابيع الماضية شهدت ألمانيا تدهوراً غير مسبوق، وربما لا يمكن إصلاحه، في ثقافتها السياسية. ببساطة، فإن الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا (C.S.U) لم يكتفِ باقتراض القضية من اليمين المتطرف، وتشويه صورة المهاجرين وخلق «أزمة» لاجئين غير موجودة – في الواقع، أعداد المهاجرين القادمين تنخفض بشكل ملحوظ – ولكنه تبنى أيضاً سياسة الخوف والذعر، بحيث يقدم نفسه منقذاً ومخلصاً من هذه الأزمة، وهذا منعطف جديد وخطير في المناخ السياسي الألماني الذي كان دائماً ما يعتبر عاقلاً وتوافقياً. استخدم الاتحاد الاجتماعي المسيحي الخوف الذي ولده لإجبار ميركل على قبول مساومة غير مريحة، وهي إقامة معسكرات على امتداد الحدود للاجئين حديثي الوصول. البديل كان انهيار الحكومة، وإجراء انتخابات جديدة، وعلى الأرجح مكانة محسنة لحزب البديل من أجل ألمانيا. ومهما كانت النتيجة، فإن ذلك يعني لأوروبا عدة أشهر بدون قيادة ألمانية يعتمد عليها، وفرصة متوقفة لبناء ديناميكية أكبر في العلاقات الفرنسية الألمانية، والتي يمكن القول إنها الشيء الوحيد الذي يبقي الاتحاد الأوروبي متماسكاً. لم يكن طلب الاتحاد الاجتماعي المسيحي بسيطاً، بالرغم من أن الخلاف على الورق يبدو طفيفاً بشكل ملحوظ. تضمن الخلاف النقطة الفرعية الثالثة في البند 27 من وثيقة السياسات التي وقعها وزير الداخلية الألماني هورست سيهوفر والمنتمي للاتحاد الاجتماعي المسيحي. ولكن هذه النقطة الفرعية احتوت على العديد من الأمور، إذ أنها تعاملت مع ما يسمى بالهجرة الثانوية داخل الاتحاد الأوروبي. وفقاً لاتفاقية دبلن، التي تحدد أي دولة منوطة بفحص التماس طالب حق اللجوء، فإن أول دولة يدخلها طالب حق اللجوء هي المسؤولة عن ذلك. في معظم الحالات الفعلية، تكون هذه الدولة هي واحدة من الدول الأوروبية الجنوبية المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، فإن العديد من المهاجرين لا يبقون طويلاً في هذه الدول وينتقلون إلى شمال أوروبا. تمتلك ألمانيا الحق في إعادة المهاجرين الثانويين من حيث جاؤوا، ولكن في حالات عديدة تتطلب الحماية القانونية للتنظيمات والاستثناءات في دبلن، على سبيل المثال القاصرين، مزيداً من الفحص لكل حالة فردية، وهو أمر يؤكد الخبراء القانونيون أنه لا يمكن القيام به على الحدود، كما أن بلدان الدخول الأول ترفض غالباً استعادة المهاجرين. بناءً على هذا الخلاف، طالب سيهوفر بأن تعيد ألمانيا المهاجرين الثانويين على أي حال، وهو الأمر الذي كان سيغضب الدول الواقعة على الأطراف الجنوبية لأوروبا، ومن المرجح أن يتسبب في انهيار الصرح الهش بأكمله، ومعه مبدأ حرية الحركة داخل الاتحاد الأوروبي. وقد أصرت ميركل على إمكانية إيجاد حل أوروبي لهذه الأزمة، وقامت بذلك فعلاً منذ عدة أسابيع في لقاء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر ميسبرغ خارج برلين، ولكن سيهوفر لم يكن راضياً. إنها قضية معقدة ومربكة، حتى بالنسبة للألمان، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الجميع يتفقون على فوضوية إجراءات دبلن، وفشل الاتحاد في حل الأزمة كان نقطة مؤلمة حتى بالنسبة للمدافعين عنه. لكن الأمر الأكثر إرباكاً هو حقيقة أن أزمة الهجرة قد انتهت في ألمانيا. في عامي 2015 و 2016 كانت الإدارة الألمانية غارقة في تدفق الهجرة على كافة المستويات. فقد أصبحت صالات الرياضة وحظائر المطارات مرافق سكنية. كما تم تدريب الجنود على إدارة جلسات الاستماع للحصول على طلبات اللجوء، لأن المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين لا يستطيع مواكبة ذلك. أما الآن، فقد تم تغير الحال. لكن هذا لا يعني أن البلاد قد تخلصت من العواقب. فما زالت أوروبا تفتقر إلى تفعيل نظام لجوء مشترك. وعلى عكس ما يؤكد عليه الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا (C.S.U.) وحزب البديل من أجل ألمانيا (A.f.D.)، فإن الدولة الألمانية لا تفشل، والنظام عائد. على الرغم من كل أوجه القصور، تمكنت أوروبا بالفعل من إدارة الأزمة جيداً، من الناحية العملية. إِذ تعتبر حدودها الخارجية أقوى، وتحظى بحراسة وإدارة أفضل. إن التعاون مع ميليشيات الدوريات الحدودية الليبية، مهما كان مشتبهاً بها أخلاقياً، قد قلص عدد هؤلاء الذين يهاجرون من هذا البلد إلى إيطاليا. لذلك، جرى الاتفاق مع تركيا لاستضافة المهاجرين مقابل الحصول على مساعدات مالية. ففي عام 2015، تقدم أكثر من 450 ألف شخص بطلب للحصول على اللجوء؛ وفي عام 2016، تقدم 745 ألفاً تقريباً. وتقدم 68 ألف طلب حتى الآن من هذا العام. ووفقاً لأرقام الوكالة الألمانية الفيدرالية للهجرة واللاجئين، جرى تسجيل ربع الأشخاص الذين تقدموا بطلبات اللجوء في ألمانيا في عام 2018 في بلد أوروبي آخر بالفعل. وهذا يعني أن الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا (C.S.U.) خاطر بالإطاحة بالحكومة لتمرير لائحة تنطبق على ما يقرب من 100 فرد في اليوم، متفرقين على جميع نقاط الدخول إلى ألمانيا. في نظام سياسي عاقل وسليم، تعد التهديدات المتعلقة بالإطاحة بالحكومة وإجراء انتخابات جديدة مخصصة للنزاعات الخطيرة بالفعل؛ أما الأمور البسيطة فيجري حلها من خلال التوصل إلى حلول وسط. هكذا عملت ألمانيا على مدار عقود. لم يعد هذا المنطق مناسباً للتطبيق. فلقد جرى استبداله بمنطق التصعيد. ومازال الشعور بالأزمة مستمراً في الخطابات في محاولة لتجهيز الرأي العام والإشارة فيما بعد إلى الرأي العام على أنه مبرر للحلول الجذرية، وليس فقط من قبل الأطراف الهامشية، بل من قبل السياسيين الرئيسيين. وتحتاج الشعبوية إلى تهديد خارجي حتى تؤدي عملها. كما تتطلب شعوراً بالإلحاح لتبرير سياساتها. فلا يمكن أن تسمح الشعبوية للأزمة بأن تمر مرور الكرام، فهي بمثابة وقودها ونتيجتها. بالنسبة للاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا (C.S.U.)، أثبتت هذه الاستراتيجية أنها بمثابة الإخفاق الكبير والنجاح الكبير. فعلى الرغم من استمرار سيهوفر وفصيله في المطالبة بالتحدث إلى الأغلبية، فقد أصبح المواطنون في كل من بافاريا والأماكن الأخرى يشعرون على نحو متزايد بالضيق حيال نزواتهم. وتراجع مستوى الاتحاد الاجتماعي المسيحي في الانتخابات، في كل من بافاريا وعلى الصعيد الوطني. ومع ذلك، نجحت الاستراتيجية على المستوى السياسي، إِذْ اضطرت ميركل إلى الرد والتفاوض بشكل أكثر بكثير مما كانت مستعدة له. فبدلاً من العمل على إيجاد حل أوروبي استباقي أكثر استدامة على غرار الاتفاقيات الفرنسية الألمانية التي جرى التصديق عليها مؤخراً في ميسبيرج، اضطرت إلى أن تلجأ لأي شيء يمكن أن تحصل عليه على المدى القصير، مما يمهد مساراً مختلفاً تماماً لسياسة الهجرة الأوروبية. لا تعتبر النتيجة من الإصلاحات «الأوروبية» الحقيقية، كما تدعي المستشارة الألمانية، بل من الحلول المرتجلة: التي تتمثل في المزيد من الضوابط الخارجية على حدود ألمانيا، والاتفاقات الثنائية بين ألمانيا وبعض البلدان التي دخلت لأول مرة لاستعادة المهاجرين الثانويين. ففي ألمانيا، وافق اتحاد المحافظين على فتح «مراكز انتقالية» على الحدود ولن تعتبر هذه المخيمات أرضاً ألمانية. يلتقي يوم الخميس كل من الديمقراطيين الاشتراكيين، الذين يحكمون جنباً إلى جنب مع الديمقراطيين المسيحيين التابعين لميركل فضلاً عن اتحاد سيهوفر الاجتماعي المسيحي (C.S.U.)، ليقرروا ما إذا كانوا سيقبلون الصفقة أم سيكررون التهديد بترك الحكومة. هناك احتمالات بأنهم سيقبلون، لأنهم يخشون إجراء انتخابات جديدة أكثر من ميركل. لكنهم يواجهون أيضاً معارضة قوية للصفقة من جناحهم اليساري – وبشكل عام، يشعر معظم الألمان بعدم ارتياح للخطة. لذا مهما كانت الصفقة التي ستتم هذا الأسبوع، فإن الأزمة السياسية حول اللاجئين لم تنته بعد. ومهما كانت المهلة التي ربما حظيت بها ألمانيا، فإن هذا الأسبوع يعد تعويضاً، وأكثر، مع ظهور ديناميكية سياسية جديدة ومخيفة. كما نجح سيهوفر من خلال التحول النووي؛ في ظل احتمالات بأنه لن يكون الأخير. وقد تكون سياسة الخوف والتهديد دائمة، مما يقوض أسس الديمقراطية. ففي الديمقراطيات السليمة، تعتبر السياسات نتاج التسوية بين الأطراف أو الأحزاب التي تمثل غالبية الناخبين. ومن خلال سياسات الأزمة المصطنعة، تأخذ الأقليات النظام كرهينة، إِذ يضعون سياسات تسترجع مشاكل خيالية للأغلبيات الخيالية.