بينما كانت إيران الغائب الأبرز عن اتفاق سوتشي الذي تم التوصل إليه بين روسيا وتركيا حول مصير مدينة إدلب السورية، فتحت أنقرة النار مجدداً على «الميليشيات الإيرانية الإرهابية» في سوريا، في تصعيد تركي واضح ضد التواجد والنفوذ الإيراني تماشياً مع تعاظم الضغوط الأمريكية والدولية على طهران لسحب قواتها وميلشياتها من سوريا.
وكما تم تغييب طهران عن مجريات مفاوضات اتفاق سوتشي الذي جرى التوصل إليه بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والروسي فلاديمير بوتين في روسيا قبل أيام، لم يظهر أي حضور إيراني في المفاوضات التقنية لتنفيذ الاتفاق بشكل نهائي على حدود المنطقة منزوعة السلاح وهي النقطة الأبرز في الاتفاق والتي ربما تتضمن إبعاد الميليشيات الإيرانية المنتشرة على حدود إدلب.
وفي تزامن لافت، نشرت وكالة الأنباء التركية الرسمية «الأناضول» تقريراً مطولاً عن «حصار الميليشيات الإيرانية الإرهابية لإدلب»، في أقوى هجوم إعلامي تركي على إيران منذ أشهر، ما يؤشر لحجم الخلافات بين البلدين فيما يتعلق بالملف السوري، ورغبة أنقرة في أن تكون جزءاً من الضغوط الدولية المتزايدة على إيران لإجبارها على الانسحاب من سوريا.
أستانة من ثلاثي إلى ثنائي
عقب فشل اجتماع أستانة الأخير الذي جرى في طهران على مستوى الرؤساء بين روسيا وتركيا وإيران الدول الثلاث الضامنة للمسار الأهم في الأزمة السورية، تمكنت أنقرة من اقناع روسيا بعقد لقاءات ثنائية في محاولة جديدة للتوصل إلى تفاهمات بين البلدين لحل الخلافات الكبيرة التي ظهرت بين الطرفين في قمة طهران.
وترى تركيا أن روسيا كانت معنية بعدم إغضابها ودفعها لاتخاذ خطوات تؤدي لنسف مسار أستانة كونها حريصة على إتمام المسار السياسي في سوريا لكسب رضا المجتمع الدولي لأسباب عديدة أبرزها ملفي شرعية النظام السوري وتمويل إعادة الإعمار، في المقابل ترى أن إيران غير معنية بكل هذه الأمور وتسعى فقط للحسم العسكري على الأرض حتى لو أدى ذلك لإغضاب تركيا ونسف مسارات أستانة وجنيف وغيرها.
وفي غضون أيام فقط، بدأت مباحثات على المستويين العسكري والاستخباري بين موسكو وأنقرة للتوصل إلى حل وسط في إدلب، وهو ما تم بالفعل وجرى الإعلان عنه رسمياً في قمة استثنائية جرى الترتيب لها وعقدها على عجل في منتجع سوتشي في روسيا بين اردوغان وبوتين، نتج عنها ما بات يعرف الآن بـ»اتفاق سوتشي» أو «اتفاق المنطقة منزوعة السلاح».
ولاحقاً أعلنت أنقرة وموسكو عقب مباحثات تقنية على المستوى العسكري استمرت لثلاثة أيام عن التوصل لاتفاق تفصيلي متعلق برسم حدود المنطقة منزوعة السلاح تمهيداً لبدء نزع هذه المنطقة من السلاح، وسط غياب إيراني كامل عن المشهد، رغم انتشار الكثير من المليشيات الإيرانية في حدود هذه المنطقة التي لم تعلن حدودها النهائية بعد بشكل رسمي.
بالتزامن مع هذه التطورات، وبعد أشهر طويلة من تجنب تركيا أي تصريحات يمكن أن تنعكس سلباً على علاقاتها مع إيران لا سيما فيما يتعلق بالتعاون في الملف السوري وتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، شنت تركيا هجوماً غير مسبوق على التواجد الإيراني في سوريا.
وكالة «الأناضول» الرسمية المعروف أنها تدار بشكل مباشر وتوجه سياساتها التحريرية بناء على التوجهات الرسمية بشكل دقيق، نشرت الجمعة، تقريراً بعنوان «إدلب السورية تحت حصار الإرهابيين الأجانب»، في إشارة إلى الميليشيات الإيرانية، وعمدت إلى ترجمته للعديد من اللغات ونشره على شكل رسوم بيانية توضح حجم التواجد العسكري الإيراني في محيط إدلب، مع التركيز على وصف هذه الميليشيات بـ»الإرهابية».
وجاء في التقرير أن «إيران دعمت النظام السوري بـ»120ألف مقاتل إرهابي أجنبي»، ينتشرون في محيط إدلب(شمال غرب) ودمشق(جنوب) وريف دير الزور(شرق)، وجاء فيه أيضاً: «تحاصر 22 مجموعة من المقاتلين الأجانب الإرهابيين من ثلاث جهات، مناطق سيطرة المعارضة السورية في إدلب، حيث تنتشر في 232 نقطة في محيطها».
وفي معلومات يبدو أن الجهات العسكرية التركية سربتها للوكالة، أوضح التقرير أن «المجموعات الإرهابية الإيرانية تتمركز على النحو التالي: «12مجموعة إرهابية في ريف إدلب الشرقي وهي: لواء فاطميون الأفغاني، ولواء زينبيون الباكستاني، وحركة النجباء العراقية، قوات بدر، لواء الإمام علي، لواء الإمام الحسين، حزب الله اللبناني، لواء باقر السوري، لواء القدس الإيراني، وجيش المهدي، ولواء غالبون، وعصائب أصحاب الحق»، وأضاف: «في ريف إدلب الجنوبي الشرقي توجد 7مجموعات وهي: حركة النجباء، وحزب الله اللبناني، ولواء الإمام علي، ولواء أبو فضل العباس، ولواء باقر، وفيلق القدس، وجيش المهدي.. وفي ريف إدلب الجنوبي الغربي يوجد 3مجموعات وهي: حزب الله العراقي، ولواء ذو الفقار العراقي، وحركة النجباء».
وتابعت الوكالة: «إلى جانب الميليشيات المذكورة توجد في سوريا قوات الباسيج الإيرانية، ولواء كفلاء زينب، ولواء القدس الفلسطيني، والحرس الثوري الإيراني، والقوات الخاصة الإيرانية»، مشيرة إلى أن «المجموعات الإيرانية المتمركزة في حمص ودمشق مستعدة للتحرك باتجاه إدلب في حال إطلاق أي عملية عسكرية عليها».
حدود المنطقة منزوعة السلاح
أعلنت وزارة الدفاع التركية، الجمعة، عقد اجتماعات مع وفد روسي، جرى فيها تحديد حدود منطقة منزوعة السلاح بإدلب، وأشار بيان للوزارة إلى أن الاجتماعات جرت بين 19و21 أيلول/سبتمبر الحالي، حول أسس اتفاق سوتشي، لافتاً إلى أنه «جرى تحديد حدود المنطقة التي سيتم تطهيرها من الأسلحة في إدلب، خلال الاجتماع مع مراعاة خصائص البنية الجغرافية والمناطق السكنية».
وعلى الرغم من أنه لم يتم الإفصاح حتى الآن عن الحدود النهائية التي جرى الاتفاق عليها، إلا أن الكثير من التقديرات تشير إلى أن المنطقة الممتدة بعرض 15إلى 20 كيلومترا سوف يتم اقتطاعها بالمناصفة من مناطق سيطرة المعارضة والنظام والقوى الحليفة له، ما يعني أن إيران ستكون مضطرة لسحب ميليشياتها من الكثير من النقاط الممتدة على حدود إدلب، وهو ما قد يفتح الباب أمام خلافات إيرانية روسية كون طهران لم تكن طرفاً مباشراً في الاتفاق رغم ترحيبها به دبلوماسياً.
في المقابل، بدأت تركيا مباحثات مع الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة السورية ومنها هيئة تحرير الشام المتواجدة في المنطقة المنزوعة السلاح من أجل بدء تنفيذ المرحلة المقبلة من الاتفاق ونزع السلاح من هذه المنطقة قبيل الموعد النهائي المتفق عليه نهاية الشهر المقبل. ولا يتوقع أن تواجه تركيا صعوبات كبيرة في تنفيذ الاتفاق لا سيما وأن البنود التي نشرت لاحقاً حول نص الاتفاق لا تشير لسحب الأسلحة من داخل إدلب، ويقتصر ذلك على المنطقة منزوعة السلاح فقط.
أفضلية تركية في غربي الفرات
ويعطي الاتفاق الأخيرة أفضلية كبيرة لتركيا على حساب النفوذ الإيراني الذي سعى للتمدد بشكل أكبر في شمالي سوريا وصولاً للحدود التركية في مناطق غربي نهر الفرات.
ويمنع ولو مرحلياً هجوما عسكريا على إدلب كان سيؤدي لاقتراب الميليشيات الإيرانية من الحدود التركية تمهيداً لتوسعها إلى جانب النظام عقب الضغط على تركيا لسحب قواتها من عفرين ومناطق درع الفرات، وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسية للتحرك التركي القوي ضد مهاجمة إدلب باعتبار أن ذلك يشكل خطراً كبيراً على الأمن القومي التركي.
في المقابل، يضمن الاتفاق لتركيا -ولو مرحلياً أيضاً-الإبقاء على تواجدها العسكري في مناطق درع الفرات وعفرين، والأهم تعزيز تواجدها العسكري داخل إدلب عبر تقوية وتوسيع نقاط المراقبة الـ 12 المنتشرة في المحافظة وهو يعطيها أفضلية أكبر على حساب مخططات التوسيع نحو الحدود التركية غربي نهر الفرات.
وحتى مساء الجمعة، واصل الجيش التركي الزج بمزيد من التعزيزات العسكرية إلى حدود إدلب، شملت هذه المرة عناصر من القوات الخاصة وناقلات جند مدرعة ودبابات، معززة بمدافع «أوبس» التركية بعيدة المدى. والجمعة، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، إن بلاده ستواصل اتخاذ الخطوات اللازمة لتعزيز قوة نقاط المراقبة التي أنشأناها في إدلب. فيما قال مجلس الأمن القومي التركي الذي اجتمع برئاسة اردوغان، الخميس، إنه راجع التدابير التي يتخذها الجيش التركي حيال مواصلة وجوده بشكل آمن في نقاط المراقبة الـ 12 في إدلب.