وائل عصام
لم تكن لهجة التصعيد من الحكومة التركية ضد اللاجئين السوريين، تمثل تحولا مفاجئا في سياسات أنقرة كما يعتقد البعض، فالسلطات التركية، بدأت منذ عام 2015 سلسلة إجراءات عملية، أمنية وإدارية، تهدف إلى منع دخول أي نازح سوري جديد للأراضي التركية، وتقييد حركة النازحين داخل المحافظات التركية المشمولين بـ”الحماية المؤقتة”. ولعل أبرز الخطوات التي اتخذت في هذا الشأن، كانت الإغلاق النهائي للحدود بوجه أفواج المهاجرين من شمال سوريا، بوضع فرق عسكرية من القناصة تستهدف كل من يحاول عبور الحدود عبر طرق التهريب، وهو ما أدى إلى مقتل المئات من النازحين السوريين على مدى السنوات الماضية، أما من يتمكن منهم من عبور الحدود، فكانت قوات الجيش تقوم في أغلب الأحيان بالتعدي عليه بالضرب، قبل اعتقاله واحتجازه في سجن إدارة الإقامة والأجانب في ولايات الحدود، وأبرزها هاتاي، حيث يقضون هناك عدة أسابيع، ثم يتم ترحيلهم بعد ان يوقعوا وثائق مكتوبة باللغة التركية التي لا يجيدون قراءتها، تقول انهم عادوا “بمحض أرادتهم”.
أما من ينجح بعبور الحدود، والتوغل بعمق الأراضي التركية، فانه كان يتمكن قبل هذه الإجراءات، من الحصول على بطاقة الحماية المؤقتة ومعها رقم الـ”كمليك” أما في الأعوام الأخيرة، فقد أوقفت تركيا منح بطاقة الحماية المؤقتة أيضا، ليبقى الآلاف من اللاجئين مقيمين بدون أوراق ثبوتية، وهم أول من سيتم ترحيلهم، في إطار الحملة التركية التي أعلنت عنها السلطات مؤخرا.
أما فيما يتعلق بتحديد حركة النازحين السوريين، فقد تم التقليل من منح أذونات السفر بين المحافظات، مما اضطر الكثير من النازحين السوريين والعراقيين للتنقل من محافظاتهم لاسطنبول، بحثا عن العمل بدون رخصة، وهذه الفئة هي المستهدفة بالدرجة الثانية بالترحيل، بعد الذين لا يملكون بطاقات الحماية المؤقتة.
كل هذه الخطوات والإجراءات اتخذتها الحكومة التركية، قبل موجة التصريحات التصعيدية الأخيرة ضد النازحين، ولكن بالطبع، فأن خسارة اسطنبول جعلت الحزب الحاكم ذو الجذور الإسلامية، يبدل من لهجته وخطابه عن “المهاجرين والأنصار” في محاولة لمجاراة المزاج العام التركي المستاء من الوجود السوري، ورغم وجود ممارسات مسيئة صادرة من بعض النازحين، إضافة إلى قدر من الاختلافات الثقافية، بحيث تعرض قبل عامين، شاب سوري للقتل بعد مشاجرة مع شباب أتراك، لقيامه بتعذيب كلب في ولاية قونيا المحافظة، إلا ان إذكاء الشعور القومي المترسخ أصلا في نفوس الأتراك كان له أثرا بالغا في تفشي الاستياء من النازحين السوريين، والعرب عموما.
وبالطبع كانت مشاعر الكراهية والممارسات المعادية للنازحين السوريين منتشرة منذ اليوم الأول للأزمة السورية، لكن في صفوف الأتراك المنتمين لأعراق وطوائف تمتلك حساسيات تجاه السوريين كـ”عرب سنة” ونحن نتحدث هنا تحديدا عن الأتراك العلويين والأكراد القوميين، لكن هذه المشاعر سرعان ما انتشرت في قطاعات واسعة حتى بين المحافظين من جمهور حزب العدالة، الذين وان كانوا يتعاطفون مع السوريين كونهم أتراك إسلاميين محافظين، إلا ان هويتهم القومية طغت في نهاية الامر على هويتهم الإسلامية، لتوسع من موجة الاستياء الشعبي، الذي لم يعد يقبل السوري المسلم وفق قاعدة “المهاجرين والأنصار” بل وفق قابليته للـ”تترك” وذوبان هويته العربية في المجتمع التركي أولا .
وفي السنوات الأخيرة إلى ما قبل انتخابات اسطنبول، وصلت التوترات مع النازحين السوريين، لدرجة تنفيذ هجمات جماعية، غوغائية، على مساكن ومحلات السوريين في تركيا، وبلغ عدد هذه الهجمات نحو 8 تم بعضها بتحريض من قبل سكان ينتمون للقومية الكردية أو الطائفة العلوية، لكن في المقابل لم يصدر عن باقي قطاعات الأتراك من جمهور حزب العدالة أو من السلطات الرسمية ردة فعل حاسمة أو تصريحات إدانة لردع هذه الهجمات، وإن تم اعتقال البعض في حي اكتلي في اسطنبول في آخر حادثة، إلا ان الإجراءات التركية الأمنية اتسمت على الدوام بالتراخي والتساهل عندما يتعلق الأمر بالاعتداء على النازحين السوريين أو الأجانب المقيمين عموما، كالعراقيين “اليابنجي” حسب التسمية التركية.
بل ان تصريحات المسؤولين الأتراك، جاءت وكأنها متفهمة، لتلك السلوكيات ضد النازحين، فلم يصدر أي تصريح رسمي يدين حالة الهجوم الجماعي وتكسير محلات السوريين في حي اكتلي، على عكس المتبع عادة في الدول الأوروبية مثلا، التي تسعى تركيا الانضمام لها، إذ تتم إدانة أي نوع من هكذا هجمات غوغائية بشكل حاسم رسميا وشعبيا، رغم أن هكذا نوع من الهجمات الجماعية ضد النازحين، لم يحصل في أي بلد أوروبي.
وفي المقابل، صدرت ثلاثة تصريحات تركية رسمية تتحدث عن الرغبة بإعادة النازحين “المهاجرين” كانت إحداها صادمة في لهجتها وتعميماتها، إذ قال رئيس الوزراء السابق والمرشح لبلدية اسطنبول عشية انتخابات العاصمة “إن العائلات التركية لم تعد تتمكن من التجول في بعض أحياء العاصمة اسطنبول بسبب مضايقات السوريين” وشرح عدة إجراءات ستقوم بها الحكومة لإعادة النازحين لشمال سوريا وإبعاد نسبة من السوريين من اسطنبول إلى جنوب البلاد.
التصريح الثاني كان من نائب وزير الداخلية الذي تحدث أيضا عن الخطوات المرتقبة للتخفيف من النازحين، إلى ان خرج الرئيس اردوغان بتصريح مفصل يتحدث بشكل واضح عن نية بلاده إعادة النازحين السوريين (المهاجرين سابقا حسب تعبيره) إلى سوريا، كاشفا عن أعداد الذين تمت إعادتهم والتي بلغت 300 ألف حسب تصريح الرئيس، وبالطبع لا يعني هذا العدد انهم أعيدوا جميعا قسرا أو بالترحيل.
لكن ينبغي هنا الإشارة أيضا إلى أن الحكومة التركية انتهجت سياسة الإبعاد القسري بحق الكثير من النازحين السوريين والعراقيين، بشكل مستمر طوال السنوات الأخيرة، وقد كشفت منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تقرير لها عن أن تركيا وقعت على ملحق أمني خاص، يخلصها من أي مسؤولية قانونية بسبب إبعاد النازحين لبلدانهم، إذ تقول المنظمة الدولية ان الملحق الخاص الذي وقعته تركيا ضمن محاولات انضمامها للاتحاد الأوروبي، يقر بمسؤولية أنقرة عن استضافة وحماية اللاجئ الأوروبي فقط ومنع ترحيله قسريا، إضافة لذلك فان المنظمة تحدثت عن خرق تركيا لشروط وافقت عليها مسبقا، مقابل الحصول على منحة الثلاثة مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي، وأهمها ان تكون بلدا حاضنا للنازحين يؤمن لهم حقوق الحماية المؤقتة، وهذا يقتضي منع ترحيل أي نازح يصل لأراضيها.
هذا التوجه الجديد بالتضييق على النازحين دفع الكثير من الشخصيات السورية المعارضة التي ظلت تقلل من جدية هذه التهديدات والممارسات على مصير النازحين، للتراجع ودق أجراس الخطر، وفي اجتماع عقد مؤخرا بين ممثلين عن النازحين السوريين ومسؤولين حكوميين أتراك، منهم وزير الداخلية التركي، اشتكى الشيخ أسامة الرفاعي، وهو من مجلس علماء سوريا، لوزير الداخلية التركي من وجود حالات ظلم للسوريين، من ضمنها، التعامل السيء من قبل مخافر الشرطة التركية مع النازحين الذين يقدمون شكاوي ضد تجاوزات الأتراك عليهم، مما حدى بالوزير بطلب أسماء هذه المخافر لمتابعة الأمر .
وتأتي المعضلة الأخطر في سياسات الحكومة التركية، المتعلقة بمبدأ المنطقة الآمنة شمال سوريا التي تتحدث عنها أنقرة كمنطقة محمية للاجئين، لكن هذه المنطقة وان كانت حاليا خاضعة في أغلبها لسيطرة الأكراد، فان مصيرها ومعها آلاف النازحين الذين سيبعدون إليها من تركيا مستقبلا قد يكون بيد النظام السوري .
وبحكم عضوية تركيا في مجموعة أستانة إلى جانب إيران وروسيا، التي تدعم استعادة النظام السيطرة على أراضيه، وباعتبار السياسة التركية في سوريا باتت تركز على أولوية التحدي الكردي وليس نظام الأسد، فان أنقرة قد لا تمانع بعودة سيطرة الأسد على الشمال السوري بتنسيق روسي، كونه يعيق ويحد من التمدد الكردي شمال سوريا. إضافة إلى ان أهداف الحكومة التركية في شمال سوريا لا يبدو انها معنية كثيرا بإقامة منطقة آمنة للمعارضة من الأسد، بل منطقة آمنة من الأكراد، وهكذا فان غايات أنقرة من إعادة النازحين السوريين إلى شمال سوريا، قد ترنو ربما إلى ضرب عصفورين بحجر، تلبية المزاج الشعبي بالتخلص من الأعداد الممكنة من النازحين السوريين داخل تركيا، واستخدامهم في تفتيت وحصار المناطق الكردية شمال سوريا وفصلها عن القرى والتجمعات الكردية على الجانب الآخر من الحدود، جنوب تركيا .
هذه السياسات التي انتهجتها الحكومة التركية في السنوات الأخيرة، وفقا لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي التركي، لا تجعلنا نتناسى أيضا النصف الآخر من الكأس في زمن آخر، ونتحدث هنا عن الدور التركي الرسمي والشعبي، المحتضن للنازحين السوريين في السنوات الأولى من الثورة السورية، إذ قامت تركيا ممثلة بحكومة حزب العدالة، بدور بارز في استقبال ملايين النازحين، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية المجانية لهم، وهي السياسات التي لم تقم بها أي دولة عربية، وقد كانت هذه السياسات مدعومة بتعاطف شريحة كبيرة من الأتراك المحافظين، وأكثرهم من مؤيدي حزب العدالة، بدوافع تتعلق بالمشاعر والهوية الإسلامية المحافظة التي يحملها أنصار الرئيس التركي اردوغان، الذي شبه العلاقة بين النازحين السوريين والأتراك، يوما ما، بـ “المهاجرين والأنصار”.