عبد الحفيظ بن جلولي / كاتب جزائري
لا أهتمّ كثيرا بالكرة المستديرة لأنّني نشأت على عدم متابعة المباريات، وإن كنت في صغري كأترابي لاعبا لها وشغوفا بها، لكنّني انصرفت عنها، لست أدري أسباب ذلك، فهي الآن لا تشكل لي أي هاجس، إلى أن وجدتُني في معمعان الكرة المستديرة، تشغلني ظاهرة اللاعب الجزائري ريّاض محرز ذلك الشاب العشريني، الذي أصبح أوّل عربي يحصل على لقب أفضل لاعب في الدوري الإنكليزي، ليس هذا المهم بالنّسبة لي، ولكن الحالة «المحرزية» هي التي يجب أن تدرس كعنصر تحفيزي في مفقود التّغيير الذي نبحث عنه في مجتمعاتنا التي لا تهتم إلا بكل صعب وغامض وغريب في مكوّنات أي ظاهرة نروم تحقيقها، لكي يعود ألق الحضور للوجه العربي المتاخم للأواخر.
بدأت الظاهرة المحرزية مع فرصة التحاقه بفريق ليستر سيتي، ثم انتقل إلى مانشيستر التي أمضى معها عقدا لمدّة خمس سنوات، ولكن يبدو لي أنّ الفضل في نجوميته كان مع ليستر سيتي، وهو الفريق الذي يفسّر شيئا من مسار هذا اللاعب كظاهرة نروم منها الإفادة والتطوير، وازداد ألق الظهور والتألق خلال مباريات كأس الأمم الافريقية والهدف التاريخي الذي سجّله لصالح الفريق الوطني والعلامة المميّزة له في العرس الافريقي، إضافة إلى تجاهله مصافحة رئيس وزراء مصر، وهو ما أشعل صفحات التواصل الاجتــــماعي، ومنح اللاعب تأشيرة التأسيس للعب بوعي الموقف وإدارة الرِّجل من خلال تخطيط العقل.
منذ أن وعيت على ما أصبح يُنشر على نطاق واسع في الإعلام، الكتب أو الدّوريات من خبر «مراكز صنع القادة» أو «التّنمية البشرية» وأنا دائم التّساؤل حول كيفية تكوين قائد، إذا لم تكن طبيعته تسمح بذلك، أي هل القائد تلقين؟ أم حالة تنشأ من خلال التّجربة والواقع؟ يبدو لي أنّ ما يُلقّن من خلال مراكز تكوين القادة من ترتيب عناصر شخصية قيادية محدّدة سلفا، لا يمكن أن يفضي إلى شيء لأنّ ذلك يتناقض مع طبيعة الأشياء في حالات التّكوين الذي يستند في جزء كبير منه إلى التّجربة، والمحك هو الحركة في المجتمع، فالأمير عبد القادر وكبار القادة في العالم لم تنتجهم مراكز التّكوين، وإلا ما كان باراك أوباما رئيسا للولايات المتّحدة الأمريكية، ففكرة التّغيير تنشأ من خلال الاهتمام بهذا الجانب الذي أغفلناه نورحنا نروّج لبضاعة التّكوين الوافدة من دول أصلا تشتغل على حركة الواقع في إنتاج أنموذجها التّغييري، ثم تؤثّث بعد ذلك المشهد المجتمعي بمثل تلك المراكز.
ريّاض محرز كان يلعب في فريق «لوهافر» ثم انتقل إلى مارسيليا، لم يكن يُذكر له اسم، معتَبَرا هناك لاعبا من الدّرجة الثانية أو الثالثة، إلى أن جاء فريق «ليستر سيتي» الإنكليزي باحثا عن لاعب، فقدّموا له ريّاض كنوع من التخلّص من عبء أثقل كاهل الفريق الفرنسي، ودفعوا فيه ثمنا بخسا، لكن هذه «البخسية» هي التي أعادت إنتاج اليوسفية في تاريخ النبوات التي صعدت بيوسف عليه السلام من قعر البئر إلى سدّة الحكم، فتجربة المسار الوجودي في حياة الأشخاص هي التي تشكل أفق شخصيتهم الفعّالة في مناطق حركتهم (المردودية)، فهذا الذي انتقل إلى «ليستر سيتي» حمل معه طاقة لم تتفجّر سوى في المستويات التي تتضمّن عنصر التحدي، إذن التحدي هو منتِج الظاهرة أو القيادة وليس التّكوين، لأنّ هذا الأخير يكاد يكون معدوم الأثر بالنّسبة لعنصر التحدي، ولعلّ الفراسة هي التي تحدّد ذلك، ومن هنا لا يمكن تصوّر فريق «ليستر سيتي» ساذجا إلى الدّرجة التي يتاجر في لاعب لا يحمل أي مواصفات لخوض غمار فضاء الكرة المستديرة، فالفراسة لدى الفريق والتحدي في شخصية اللاعب هما اللذان أنتجا ظاهرة «ريّاض محرز» القوية والفائزة.
فكرة التخلص من الأشياء والأشخاص لا تكشف في النّهاية إلا عن سوء تقدير، وهو ما نعاني منه في واقعنا المرير، ولسنا وحدنا في ذلك، لأنّ النّظرة العنصرية ما زالت تحكم علاقة المستعمِر بالمستعمَر.
ريّاض بادئ الأمر، وهو يعيش برهة انتقاله إلى «ليستر سيتي» نظر هو الآخر إلى شخصيته بسلبية على أساس بنيته الجسمانية الضّعيفة، لكن الذي حدث أنّه لم يبق سجين لحظته السّلبية، بل انقذف كلية في أتون إيجابية التحدي، حيث تكون قد عبرت أفق ذهنه كل صوّر النّاجحين في العالم، وبرهة التحدي والانفلات من قيود السّلبــية نقلها إلى الفريق الجديد «ليستر سيتي»، فبعدما كان لا يلعب إلا على السّقوط، رفع ناظريه إلى أعلى وتشبّث بحبال «المحرزية» وأطلق لمبادرته العنان فأصبح قائدا في ذاته، ولعلّ هذا المستوى من عوامل النّجاح لا يمكن أن نحصل عليه من الدّرس القيادي بقدر ما نبحث عنه في تجربة أعماقنا التي تنشد التّغيير والنّجاح.
فكرة التخلص من الأشياء والأشخاص لا تكشف في النّهاية إلا عن سوء تقدير، وهو ما نعاني منه في واقعنا المرير، ولسنا وحدنا في ذلك، لأنّ النّظرة العنصرية ما زالت تحكم علاقة المستعمِر بالمستعمَر، وبالتالي فإنّ سوء التّقدير لا ينجم عنه سوى إقصاء وتهميش الكفاءة التي يمكن أن تكون عامل إفادة وتطوير، وهو ما نستخلصه من الظّاهرة «اليوسفية» كما نتدبّرها في القرآن الكريم في الآية: «لعله ينفعنا أو نتّخذه ولدا»، أي التّقدير الجيّد للمواقف هو الذي يمنح الشّخص أو المجتمع محلّ التّغيير القدرة على قراءة موقعه في لعبة الحركة والتّجاذبات حوله، ومن ثمّ تحديد عناصر حركته لأجل دفع السّلبية وإظهار مواقع الإيجابية التي غفل عنها أو تغافل في خضم وسمه بسلبية جعلته لا يهتمّ بعناصر الدّفع في شخصيته المحبَطة فقط من عدم توفّر الفرصة، ولهذا أحمد زويل العالم المصري لا يتعامل مع حالته في ازدهارها الما بعد عربي، على أساس التطوّر العلمي أو التّكوين الفائق أو القيادة المفقودة، بل عزا ذلك إلى المجتمع، الذي لعب دوره في حالة ريّاض محرز فريق «ليستر سيتي»، حيث يرى أنّ «الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعّمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب النّاجح حتى يفشل»، الشاهد في هذه العبارة هو المجتمع وليس تكوين القائد، لأنّ التغيير لا يحتاج إلى قادة، بل يحتاج إلى تثمين مجهود أو مستوى ريادي في شخصية ما، ومن مميّزات رياض محرز كونه لاعبا مهاريا، أي يحوز مهارات المراوغة التقنية التي تتطلبها كرة القدم، ويمتلك أيضا الثقة في النّفس، وهما عاملان فجّرا الظاهرة المحرزية عندما وجدت التّربة الحاضنة ذات المواصفات العالية في ما يتعلق بالدّفع نحو النجاح.
إنّ ظاهرة رياض محرز تكشف عن عمق فجوة الشّرخ بين التصوّرات والواقع في عالمنا العربي، الذي ينشد التّغيير، بدون أن يفعّل مؤطّراته ومحرّكاته، إذ حركة خفيفة من فريق لم يكن يحلم يوما أن يصل إلى ما وصل إليه جعلته يرتقي سلّم الصّعود، لأنّه استبان مواطن الإيجابية في شخصية قد كان يمكن لسلبية التّهميش أن تقضي عليها، وبالتّالي فالنّجاح أو التّغيير لا يحتاجان سوى تضافر جهود ذات طبيعة خاصّة، وفي مستويات محدّدة لكي تتفجّر بعد ذلك عوالم العطاء وجماليات الإبداع ومهارات التّغيير.
إنّ فريق «ليستر سيتي» لم يفعل أكثر من أنّه دفع بالثقة الكامنة في شخصية رياض محرز إلى ساحة الشعور، ومنحه فرصة لكي يداعب مهاراته على مسرح الكرة المستديرة، ولهاتان الحركتان المتمثلتان في الكشف عن الكمون ومنح الفرصة، علاقة بما لا نعيره اهتماما في عوالمنا المتخلفة، التي تساهم في إفشال النّاجح، إنّهما على علاقة وطيدة بالحلم الذي «عندما يتسلح بالإرادة يستحيل واقعا»، فالحلم هالة من طاقة تتواشج مفاعيلها في أعماق الذّات النّاهضة والرّائية إلى الأفق التّغييري، حتى إذا لمع شعاع «الأخذ باليد» في واقع المجتمع لمع نجمها وذاع صيتها، وهذا ديدن المجتمع الطّامح للصّعود، أمّا إذا كان العكس خَفَتَ ضوءها وسكنت إلى الأبد، ولهذا كل ما فعله «ليستر سيتي» أنّه تسلّح بحس الفراسة وفجّر ما خبا من التحدي عند رياض، فصار هذا الفريق متصدرا الدّوري الإنكليزي.