مريم عرجون / مدونة مغربية
حين سألوني أول ما سألوني عن كيف وجدت كازابلانكا، أجبت بدون تفكير هي تماما كسيارة مرسيدس. شعبية ديناميكية، ركض خلف المصالح وروح خفيفة كفيلة بتسويق ذاتها بسهولة.
حذرني الجميع من احتمال تعرض هاتفي المحمول للخطف فيها، لأني أهوى التقاط الصور في كل مكان أمر به، لكن لم يحذرني أحد من خطر خطفها للقلوب.
كازابلانكا مدينة لا يروى عنها، وإنما تعاش.
إنها العاصمة الاقتصادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وإن كانت لا يتوفر فيها الكثير من المآثر التاريخية، فإن ما يميزها هو تنوع تجليات مدارس الفن المعماري العصري فيها، وشحنة روح من مروا بها من حالمين ومبدعين ومفكرين وباحثين عن فرصة وجود في العالم المادي.
أما أنا مريم، الشابة المنقسمة في انتمائي بين المغرب بلد الآباء والأجداد، وألمانيا بلد المنشأ والعيش، فأجد مشاعري نحو الدار البيضاء منقسمة لعدة أجزاء. فيها ما هو منحذب نحو الماضي، ومنها ما هو ملتصق أشد الالتصاق بالحاضر ، دون إغفال ذكر مشاعر الشابة الساعية لتوسيع آفاقها الثقافية.
لا يمكن الحديث عن كازابلانكا دون تذكر باريس والقاهرة ونيويورك. مدن سيطر عليها بريق العالمية في فترة متقاربة بسبب الحروب العالمية وزمن سطوة سحر شاشة السينما.
إذا ما بحثت في العمق وجدت أن الكثير من مشاهير العالم الغربي هم من مواليد البيضاء. وإن تابعت المستجدات وجدت أن الكثير من أعيان السلطة في العالم يقصدونها للاستقرار بها، مثلما يقصد آخرون هامبورغ الألمانية، وجهة أثرياء العالم.
ويكمن سر جاذبية الدار البيضاء، حسب انطباعاتي، ليس في طبيعتها وإنما مواكبة لإيقاعها. فهي بكل أمانة مدينة “ولاّفة”.
أما جزء الماضي القريب الذي يداعب خيالي فهو آت من المهجر، حيث تأسرك صورة أحد أشهر ملصقات الأفلام العالمية في القرن العشرين وهو فيلم “Casablanca“. فكثيرا ما يحدث أن ترى الممثل همفري بوغارت بنظراته الثاقبة مرافقة لك في أكثر جلساتك الخصوصية مع الذات، رفقة فنجان كابوتشينو أو لاتمكياتو في مقهى راق. ناهيك عن حضور صور ملتقطة من مقاطع الفيلم الحميمية، ضمن مقتنيات السياح في الدكاكين قرب المحطة أو داخلها في المدن الكبرى. وأيضا كثرة إطلاق هذا الإسم على مقاهي وحانات في العديد من أنحاء ألمانيا وأوروبا.
لا أعرف أن كان اسم مدينة عربية قد احتل من قبل هذه المكانة البارزة في المنتجات العالمية. ربما تكون بغداد إلى حد ما، وذلك لشهرة قصة علاء الدين وياسمينة وسندباد.
حتى قبل زيارتي لكازابلانكا مؤخرا، احببت روح البيضاويين الذين تعرفت على الكثير منهم سواء اثناء السفر أو عبر الفيسبوك أو عبر تعاملي معهم كزبائن في متجر والدي بسبتة حين كنت أساعده في البيع فترة الصيف. فهم أسياد العفوية الحنونة والعملية إن صح التعبير.
تقول الأسطورة ان أصل اسم الدار البيضاء يرجع الى خلوها من المباني بعد أن دمر البرتغاليون كل ما فيها قبل قرون، ولم يذروا سوى بيت واحدٍ كان لون جدرانه أبيض.
لمن سافر وجال، سوف يرى في وسط مدينتها القديمة تقاطعا وتشابها كبيرين بين وسط البلد في القاهرة، وأحياء باريس التاريخية.
ومستوى بيئت الدار البيضاء يختلف من منطقة لأخرى. فوسطها مختلف عن منطقة المعاريف، وكلاهما يختلفان عن غيرهما من أحياء المدينة.
أما مشاكلها فتظهر بعيني، أنا الزائرة العابرة، في كثرة هجرة القرويين إليها بحثا عن فرص عمل وحياة أفضل، بعيدا عن الأرياف المهمشة.
وكشخص محترم تتحرى الجودة. يستحسن أن تدقق في نوعية الفندق قبل الحجز. فالغالبية العظمى من فنادقها وبيوت الضيافة فيها جيدة الخدمة والسمعة، لكن ثمة فنادق مشهورة بكثرة الشجارات الليلية بسبب كثرة السكارى، وأخرى يستحسن أن تتفاداها الفتاة التي تسافر بمفردها، لأنها مقصد تلك العينة من أثرياء العرب الذين تصدر عنهم تصرفات غير لائقة بعنجهية نابعة مما يملكونه من دولارات النفط.
وبعيدا عن كثرة التفاصيل. فإن أكثر من تلمس حضوره في المدينة، هي لمسات الملك الحسن الثاني رحمه الله.
فحين تذهب إلى الشاطئ وترى مسجد الحسن الثاني الضخم، لا تملك إلا أن تردد المثل المغربي الشهير “الناس، الزمان هو الي كيترحم عليهم”.
فهذا المسجد تعرض للكثير من الانتقادات بسبب أن الملك جعله إرثا شعبيا مشتركا، حين طلب من كل مواطن المساهمة في تشييده ولو بدرهم واحد عام 1987. أنذاك قامت الدنيا ولم تقعد، تماما مثلما قامت ضجة كبرى حول برج أيفل الحديدي بباريس، حين تقرر تشييده في الوقت التي كانت فرنسا تعاني فيه من ضائقة اقتصادية. لكن فيما بعد تبين أن من قررا بناء هذين المَعْلَمَيْن ، كانا ينظران بعيون قوة المستقبل لا جوع اللحظة.
اليوم باريس هي برج أيفل، وكذلك الدار البيضاء، فهي مجسد الحسن الثاني الخاطف للأنظار بروعته وجماله .
إن التاريخ يصنعه ذوو الرؤية المتبصرة والعزيمة الراسخة.
لو قالوا لي امنحي كازابلانكا لقبا يجمع كل أهل المغرب حولها، فسأقول باختصار “الدار البيضاء تجمعنا”.