لم تأت العملية التركية في شمال سوريا والتي بدأت في 9 اكتوبر من فراغ، فقد جاءت بعد أن نجحت إيران، وإن نسبيا، في هز صورة الولايات المتحدة عبر سلسلة عمليات لها في الإقليم، فالإقليم أمام موازين قوى جديدة ومتغيرة، لأن الولايات المتحدة تعيش لحظة تراجع نسبي لا تقل قيمة عن لحظة التراجع البريطانية في منطقة الخليج والعالم العربي في أعقاب إعلان خروج بريطانيا من منطقة الخليج في العام 1968.
لقد بدأ العد العكسي للدور الأمريكي العالمي، هذا ما تؤكده العملية العسكرية التركية في سوريا، والظروف التي تؤثر على الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فبسرعة تراجعت الولايات المتحدة عن حمايتها للأكراد، وبنفس الوقت عندما ارتفعت الضغوط من الكونغرس على البيت الأبيض بسبب التخلي السريع عن الأكراد، سعت الإدارة الأمريكية لإقناع تركيا بوقف لإطلاق النار لخمسة أيام مقابل إقناعها الأكراد بالانسحاب من المنطقة وتسليم السلاح الثقيل. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على تركيا لإنجاز ذلك الهدف. يمكن القول بأن الولايات المتحدة تداركت نفسها ولم تتخل عن الأكراد بالكامل، لكنها بنفس الوقت تفاعلت مع الأهداف التركية وسعت لوضع قيود عليها. وهنا يبرز التعقيد الجديد في سوريا. لقد نجحت تركيا في تعزيز مكانتها في الملف السوري دون أن يعني ذلك تحقيقها حتى الآن لكل أهدافها، ودون أن يعني ذلك خروجا شاملا للولايات المتحدة من الوضع السوري. مازال للدور الأمريكي مكان، لكنه تراجع بصورة واضحة نسبة لما كان عليه الحال قبل العملية التركية.
لقد جاءت العملية العسكرية التركية في شمال سوريا بعد سنوات من التدمير الممنهج لسوريا، إذ مارس النظام السوري قمعا شديدا بحق شعبه، وانتهى الأمر بمقتل مئات الألوف من أبناء وبنات الشعب السوري، وتحول ملايين السوريين نحو اللجوء، وقد وصل لتركيا نحو 3.5 مليون سوري. وقد أدى الوضع السوري منذ بداياته للتدخل الخارجي، إذ تدخلت إيران بعد اهتزاز قواعد النظام السوري بعد ثورة 2011. وعندما فشلت إيران في تحقيق ذلك تدخلت روسيا لحماية النظام من السقوط، وقد قامت عدة دول خليجية بدعم فئات مختلفة من المعارضة المسلحة وذلك بعد أن تسلحت الثورة السلمية بفضل انشقاقات الجيش السوري الذي رفض الكثير من عناصره إطلاق النار على المتظاهرين السلميين في 2011.
أدى الوضع السوري منذ بداياته للتدخل الخارجي، إذ تدخلت إيران بعد اهتزاز قواعد النظام السوري بعد ثورة 2011. وعندما فشلت إيران في تحقيق ذلك تدخلت روسيا لحماية النظام من السقوط
وقد كانت التوقعات تشير في خضم كل التدخلات الخارجية في سوريا لإمكانية تدخل تركيا مثلا في العام 2015 او 2016، لكن تركيا انتظرت. إن العملية التي بدأت في 9-10 من هذا الشهر لم تكن لتقع بهذا المستوى لولا خسائر الرئيس أردوغان السياسية والانتخابية بسبب أثر المشكلة السورية على تركيا (اللاجئين، الامن، الاقتصاد)، وبسبب علاقة أكراد سوريا بأكراد تركيا عبر الحدود، فقيادة قوات سوريا الديمقراطية الكردية الطابع في الجانب السوري والتي تدعمها الولايات المتحدة في أغلبها قيادات كردية تركية.
وبسبب حجم العملية العسكرية، أدانت جامعة الدول العربية العملية التركية، لكن العملية التركية لم تأت من فراغ، ومن يقرأ إدانة الجامعة العربية سيشعر أن الجامعة خرجت من الحدث ولا علاقة لها بالواقع. إن التدخل التركي هو بالفعل تدخل خارجي، لكنه يوازي الروسي والإيراني. بل قد تكون هذه التوازنات مفيدة للمشروع السوري لإخراج القوات الاجنبية من سوريا. بل يمكن القول بأن القوات الكردية من خلال علاقاتها مع إسرائيل والأجهزة الأمريكية بإمكانها أن تخلق مشكلة أكبر لكل من سوريا وتركيا. لهذا يمكن الاستنتاج بأن تركيا، ودون قصد، خدمت مشروع وحدة الأراضي السورية.
إن التصرف تجاه سوريا وكأن شيئا لم يقع منذ 2011، وكأن النظام الذي شرد ملايين السوريين وقتل مئات الألوف لم يقم بشيء، وإن التصرف على أن سوريا تعاني الآن فقط من تدخل تركي، بينما في الحقيقة تعاني سوريا من وجود أجنبي على كل صعيد ومن نظام سوري يعاني من ضعف في الوعي والإدارة والمعرفة، لن يخدم المشروع السوري.
لكن الحرب هي الحرب، ولا يوجد ضمان للشكل الذي ستتخذه العملية التركية ومدى الخسائر التي سيتعرض لها الأكراد، بل هناك أسئلة عن مدى دقة مشروع توطين مليون أو مليوني مواطن سوري في مناطق ستحتلها تركيا في عمق 32 كيلومترا داخل الأراضي السورية. وهنا يبرز السؤال: ما هو الثمن الإنساني للسوريين أكرادا وعربا في كل هذا؟ إن العملية التركية في بداياتها وستتضمن مفاجآت ومن الصعب أن تسير كل أبعادها كما خطط لها. وهذا يشمل بنفس الوقت الدور الإيراني والروسي ودور النظام وسياساته. فسوريا في مستنقع لا يبدو أنها ستخرج منه في المدى المنظور.
حتى اللحظة لم يغير النظام السوري من روايته بينما سبقه التاريخ وتجاوزه، ولهذا بالتحديد سيبقى الواقع السوري عرضة للمفاجآت حتى يعود الشعب السوري لحركته في بناء أفق لإصلاح سوريا. الاصلاح أولا، ومشروع الوطن الحقيقي، وبناء دولة تعتني بمواطنيها في ظل العيش الكريم والكرامة الإنسانية هو جوهر ما سعى إليه الشعب السوري منذ 2011. إن عدم وعي النظام السوري بمتطلبات المرحلة وضرورة العفو العام، وعودة السوريين، والمصالحة الجادة، وبناء وضع دستوري يضع حدودا للدولة الفاسدة والقمعية والدولة غير المساءلة والمهووسة بالسجون والتعذيب والسلاح والاغتناء غير المشروع سيدمر ما تبقى من سوريا. ليقع تطور حقيقي في مشروع لسوريا على النظام أن يتفاهم أولا مع معارضيه وشعبه، وعليه أن يكتشف الطريق لإعادة إدخال الجيش الحر لبنيته، عليه أن يكتشف كيف ينتقل بعد حرب أهلية نحو وضع إنساني وديمقراطي، وأن يكتشف أن هذا هو السبيل الوحيد لتوحيد سوريا وإبعاد شبح السيطرة الأجنبية.