اسماعيل كايا / اسطنبول
تمر العلاقات التركية الأمريكية في الأسابيع الأخيرة بواحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق، وسط خلافات وعقوبات وكراهية متصاعدة بين الجانبين فتحت الباب واسعاً أمام تساؤلات جوهرية متكررة حول ما إن كان هناك حقاً ما يمكن أن يطلَق عليه “تحالفٌ إستراتيجي” بين البلدين اللذين يمتلكان أكبر جيشين في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومع كل حلقة من حلقات الخلاف المتعاظم بين أنقرة وواشنطن، لا يتوانى البلدان عن التأكيد على ضرورة التعامل بما يتلاءم مع “روح التحالف الإستراتيجي” بينهما، وهو ما يجمع الكثيرون على أنه بات مجرد كلام إنشائي لا يتوافق مع مستوى التباعد الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين.
وإلى جانب الخلافات بين البلدين على المستوى الرسمي في ملفات كبرى، يتصاعد الشرخ الشعبي العام، حيث تشير الكثير من الدراسات واستطلاعات الرأي إلى أن أغلبية ساحقة من الشعب التركي لا ترى في الولايات المتحدة “حليفاً إستراتيجياً”، بل على العكس من ذلك، ترى فيها دولة معادية وسط تصاعد كبير في مستوى الكراهية للولايات المتحدة وسياساتها في العالم واتجاه تركيا بشكل خاص.
ويغذي ذلك بشكل واضح الخطاب الرسمي والإعلامي التركي، حيث لا يخلو خطاب للرئيس رجب طيب أردوغان من توجيه اتهامات باستخدام لغة حادة جداً ضد الإدارة الأمريكية، ويتهم وزراؤه بشكل منظم واشنطن بـ”دعم الإرهابيين ضد تركيا”، فيما يقدم الإعلام وجبة يومية دسمة كافية لإقناع أي مواطن بأن الولايات المتحدة ما هي إلا دولة معادية لتركيا وتعمل ضد مصالحها.
وعلى الجانب الآخر، أظهرت التطورات الأخيرة المتعلقة بالعملية العسكرية في سوريا مدى تصاعد الكراهية والمواقف المعادية لتركيا داخل الإدارة الأمريكية ومجلسي الشيوخ والنواب من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، وصولاً لاتخاذ قرارات غير مسبوقة ضد تركيا.
وكان تصويت مجلس النواب الأمريكي، الثلاثاء، على قرار بالاعتراف بما يسمى “الإبادة الجماعية للأرمن” بأغلبية ساحقة وصلت إلى 405 أصوات مقابل رفض 11 فقط، رغم أن القرار لم يصل إلى مرحلة التصويت على الإطلاق سابقاً رغم سنوات طويلة من المحاولات- بمثابة أكبر مؤشر على مدى تزايد الكراهية وتراجع العلاقات بين البلدين على المستوى الشعبي (الذي يمثله مجلس النواب)، إلى جانب المستوى الرسمي.
كما وافق المجلس أيضاً بأغلبية ساحقة على قرار يطالب الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات على تركيا بسبب عملية نبع السلام التي نفذها الجيش التركي ضد الوحدات الكردية في شمالي سوريا، وهو ما أثار غضب تركيا التي اعتبرت أن هذه القرارات لا تتناسب مع “العلاقات الثنائية بين البلدين والتحالف في إطار الناتو”.
وخلال عملية “نبع السلام” أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهديدات مباشرة وغير مسبوقة ضد تركيا، وتوعد بـ“تدمير وسحق الاقتصاد التركي”، متفاخراً بأنه وجه ضربة كبيرة للاقتصاد التركي خلال أزمة الراهب برانسون الذي كان موقوفاً في تركيا، وهو ما قدمه الإعلام التركي كدليل على أن الولايات المتحدة هي سبب “المؤامرات الاقتصادية” على تركيا، وهي المتسبب في الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها المواطن التركي.
ويعتبر دعم واشنطن لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا من أبرز أسباب الخلاف المتصاعد بين البلدين، حيث يتساءل المسؤولون والمواطنون الأتراك بشكل دائم عن أسباب دعم واشنطن “تنظيماً إرهابياً مرتبطاً بتنظيم (بي كا كا) المصنف في أمريكا إرهابياً” ضد تركيا، وتمده بآلاف شاحنات الأسلحة والمعدات العسكرية وتدافع عنه وتفرض عقوبات على تركيا لإرضائه.
وعلى مستوى الاجتماعات والاتصالات الثنائية الرسمية، واجتماعات حلف الناتو، دائماً ما تطرح تركيا أسئلة مبدئية على واشنطن تتمحور حول “هل أنتم حلفاء لتركيا أم للوحدات الكردية؟”، وكرر أردوغان خلال الأيام الماضية السؤال: “منذ متى أصبح تنظيم (ب ي د) الإرهابي عضواً في الناتو وأهم من تركيا بالنسبة لكم؟”، وسط توحد شعبي وحزبي ورسمي تركي على رفض رسالة ترامب لأردوغان التي وصفت بـ”المهينة” ولا تتوافق مع “الحد الأدنى من اللباقة الدبلوماسية والعلاقات بين الدول”.
كما لا تزال شريحة واسعة من الشعب التركي على قناعة راسخة بأن واشنطن دعمت محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها البلاد عام 2016 وأدت إلى مقتل 250 مواطناً تركياً. ويثير إصرار واشنطن على حماية وعدم تسليم تركيا فتح الله غولنالمتهم بقيادة المحاولة الانقلابية غضب الشارع التركي الذي قدم له الإعلام ما قال إنها الأدلة الكافية على دعم واشنطن للمحاولة الانقلابية الدموية.
إلى جانب كل ذلك، وفي إطار الخلافات المتصاعدة بين البلدين في السنوات الأخيرة، بدأت تركيا بالتوجه رويداً رويداً نحو روسيا مبتعدةً شيئاً فشيئاً عن حلفائها التقليديين في الناتو. ومن تطوير السياحة والعلاقات الاقتصادية إلى التعاون في مجال الطاقة النووية وخطوط الغاز، تعمق التعاون بين البلدين في المجالات الإستراتيجية وعلى رأسها السلاح.
وبديلاً عن منظومة باتريوت الأمريكية التي تقول أنقرة إن واشنطن رفضت بيعها لها، اشترت تركيا منظومة S400 الروسية في خطوة تاريخية تعتبر أكبر مؤشر على مدى ابتعاد تركيا عن حلفها مع واشنطن التي عاقبتها بطردها من مشروع طائرة F35 الإستراتيجية، الأمر الذي عمّق الخلافات ودفع تركيا للبحث عن بديل روسي، وسط أنباء عن قرب توقيع أنقرة على صفقة لشراء 48 طائرة من طراز SU35 الروسية، الأمر الذي قد يترتب عليه مزيد من العقوبات الأمريكية على تركيا.
وفي خلافات جوهرية متصاعدة تتعلق بملفات سوريا والوحدات الكردية وغولن وتزايد العقوبات والتهديدات بين البلدين والتقارب التركي المتزايد مع روسيا، لا يتوقع أن تنجح زيارة أردوغان إلى واشنطن والمقررة في الثالث عشر من الشهر المقبل في إحداث اختراق حقيقي في العلاقات بين البلدين التي يبدو أنها باتت أبعد ما يكون عن وصفها بـ”التحالف الإستراتيجي”.