اسماعيل كايا / اسطنبول
يبدو الموقف التركي من إيران معقداً إلى درجة كبيرة جداً، فعلى الرغم من أن الجمهورية الإسلامية تعتبر المنافس الإقليمي الأول لتركيا التي تختلف معها بشكل جوهري في سياساتها داخلياً وخارجياً، إلا أنها تقف بقوة ضد أي تظاهرات يمكن أن تؤدي إلى إسقاط النظام الإيراني الذي لا يتوانى عن توجيه الانتقادات لتركيا، والتي كان آخرها الهجوم على العملية العسكرية التركية في سوريا “نبع السلام”.
وكما فعلت إبان مظاهرات أكتوبر/تشرين الثاني 2018، أعلنت تركيا تحفظها علىالتظاهرات التي تشهدها إيران في الأيام الأخيرة وخلفت قتلى وجرحى ومعتقلين، حيث أعرب وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، الاثنين، عن أمله في أن تنتهي الاحداث المتواصلة في إيران منذ عدة أيام، بـ”أسرع وقت ممكن، ويعود الهدوء والسكينة إليها”.
وفي موجة التظاهرات السابقة عام 2018، اعتبرت تركيا أن “هذه الأحداث لا تخدم الاستقرار في المنطقة وتصب في صالح أمريكا إسرائيل، كما هاتف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الإيراني حسن روحاني وأعلن له أن بلاده “تولي أهمية للمحافظة على السلم والاستقرار الاجتماعي في إيران”، كما أعرب مسؤولون أتراك عن معارضة بلادهم “تولي وتغيير السلطة في بلد ما عن طريق التدخلات الخارجية أو استخدام العنف أو الطرق المخالفة للدستور والقوانين”.
وعلى الرغم من غموض التصريحات الرسمية، فإن مسؤولين أتراكا يتحدثون بشكل غير معلن عن أن معارضة بلادهم لا تنطلق من مبدأ تفضيل النظام الإيراني أو معارضة إسقاط هذا النظام بحد ذاته، وإنما من معارضة أي إمكانية لوقوع إيران في وحل الفوضى وانهيار الحكومة المركزية وما يترتب على ذلك من نتائج توصف بـ”الكارثية” على تركيا سياسياً وأمنياً واقتصادياً، في حين يذهب البعض للحديث عن نتائج “استراتيجية”.
يضاف إلى ذلك، اعتبار تركيا أن ما جرى في إيران خلال السنوات الأخيرة هو محاولة “تدخل خارجي” وليس مجرد حراك شعبي داخلي، سواء كان من خلال التحرك المباشر ودعم أطراف داخلية في محاولة لزرع الفوضى وإسقاط النظام، أو من خلال الضغوط الاقتصادية المتعاظمة التي تكون نتيجتها الطبيعية خروج الناس إلى الشارع للمطالبة بإسقاط النظام.
وبينما تتوجس تركيا بشكل دائم من احتمال وجود “دعم أمريكي أو سعودي” لمثل هذه التحركات، تخشى أن تكون هي الهدف المقبل، لا سيما مع تزايد الخلافات بين أردوغان من جهة، والمحور الأمريكي- الأوروبي والمصري- السعودي- الإماراتي من جهة أخرى.
وتختلف تركيا مع إيران مذهبياً، وتتهم تركيا التي يقطنها أغلبية من المسلمين السنة إيران الشيعية، باتباع سياسة مذهبية في المنطقة، كما تعارض التدخل الإيراني في العراق، وتدخلها العسكري المباشر في سوريا واليمن ولبنان وغيرها من الدول العربية، وسط خلافات سياسية وأمنية واقتصادية واسعة بينهما، حاول البلدان تحييدها قدر الإمكان طوال السنوات الماضية والتركيز على نقاط الاتفاق لمواجهة التحديات الهائلة التي مر بها البلدان في السنوات الأخيرة.
ومن أبرز أسباب معارضة تركيا أي مظاهرات واشتباكات واسعة في إيران، هو الخشية من أن تؤدي إلى انهيار الحكومة المركزية وبالتالي انتشار الفوضى وانهيار الأمن، وهو ما سيؤثر على تركيا بشكل مباشر كما جرى في سوريا لا سيما وأن حدوداً تمتد على 300 كيلومتر تربط البلدين.
وتتخيل تركيا سيناريو أصعب وأسوأ من ذلك الذي تعيشه منذ اندلاع الحرب في سوريا قبل 8 سنوات، بسبب انهيار الأمن على الطرف الآخر من الحدود، وبالتالي مواجهة تهديدات متعددة من أطراف إقليمية وتنظيمات إرهابية على غرار ما جرى في سوريا، وتعتقد بأن الفوضى في إيران تعني بلا شك تشجيع أطراف دولية مختلفة على تفعيل كافة أوراقها من إيران للعراق ولبنان المشتعلين أيضاً بالتظاهرات، وربما عودة تنشيط الحرب في سوريا كما كانت عليه في السنوات الأولى.
وتتوقع تركيا في حال انهيار الحكومة الإيرانية، عودة قوية للتنظيمات الإرهابية على غرار تنظيم “الدولة”، وظهور مليشيات شيعية متشددة ربما تتحول أيضاً لمهاجمة تركيا، إلى جانب أن ذلك سوف يشجع ويساعد على عودة التنظيمات الإرهابية للعراق أيضاً، وضمان استمرار وتعمق الأزمة الحالية في سوريا، وهو ما يطلق عليه المحللون الأتراك سيناريو انهيار الأمن والأنظمة القوية في دول الجوار واشتعال الجوار التركي بشكل كامل.
وتعلم تركيا جيداً أن ضعف النظام الإيراني أو انهياره سوف يعني على الفور انتعاش التنظيمات الكردية المسلحة وعلى رأسها تنظيم “بي كا كا” وتفرعاته في العراق، وعودة القوة لفرعه الإيراني “حزب الحياة الحرة الكردستاني” وتسهيل انتقال الأسلحة إلى التنظيمات الكردية من سوريا للعراق وصولاً لإيران ومن ثم لتركيا، وبالتالي تدمير كافة الإنجازات التي حققها الجيش التركي في إضعاف تنظيم “بي كا كا” داخل تركيا وفي إيران طوال السنوات الماضية، بعد أن وصلت أنقرة بصعوبة لتفاهمات مع طهران مكنتها من العمل بحرية أكبر ضد التنظيم على الحدود بين البلدين.
والسيناريو الأخطر في هذا الإطار، هو أن انهيار نظام الحكم يعني ظهور النزعات الانفصالية في إيران على غرار ما جرى في العراق سابقاً وسوريا لاحقاً، وبالتالي فإن الأكراد في إيران سوف ينشطون للمطالبة والعمل على إقامة كيان منفصل لهم وهو ما يشجع أكراد تركيا على العمل لإقامة دولة خاصة بهم أيضاً، وهو ما اعتبرته تركيا منذ عقود الخطر الاستراتيجي الأكبر عليها.
وفيما يتعلق بمصادر الطاقة، تخشى تركيا أن أي نزاع ولو كان محدوداً يمكن أن يؤثر على إمدادات الطاقة الإيرانية إليها، حيث تعتمد أنقرة ولو جزئياً على النفط والغاز الإيراني وبأسعار تفضيلية وتكاليف نقل أقل من غيرها، وفي حال توقفها ستكون بمثابة ضربة موجعة جداً لتركيا التي لن تتمكن بسهولة من توفير بديل للكميات الكبيرة من الغاز والنفط الذي تحصل عليه من إيران، كما أن ذلك سوف يكلفها خسائر سنوية قد تصل إلى مليارات الدولارات.
واقتصادياً، تعتبر إيران شريكا اقتصاديا مهما لتركيا، ويسعى البلدان لرفع حجم التبادل التجاري من قرابة 20 مليار دولار إلى أكثر من 30 مليارا، وفي حال وقوع إيران بالفوضى، فإن الاقتصاد التركي المنهك هذه الأشهر بفعل أزمات متلاحقة، سيتلقى ضربة موجعة تزيد من متاعبه بشكل غير مسبوق بفعل خسائر قد تصل لعشرات مليارات الدولارات.
وإنسانياً، تتوقع تركيا في حال تدهور الأوضاع في إيران أن تحصل موجة لجوء كبرى نحو الأراضي التركية على غرار ما جرى في الأزمة السورية وهو ما لم تعد تركيا قادرة على تحمله أمنياً ولا اجتماعياً والأهم اقتصادياً، وظهرت مؤشرات ذلك بشكل واضح في الأشهر الماضية، حيث انتقلت أعداد كبيرة من الإيرانيين للعيش في تركيا مع تزايد الضغوط الاقتصادية الأمريكية، وهي أرقام ستكون ضئيلة جداً مقارنة بأرقام النازحين الذين سيصلون تركيا في حال حدوث فوضى أمنية بإيران.
ولن تنحصر أزمة اللجوء والنزوح بالإيرانيين أنفسهم، فخلال السنوات الأخيرة، تحولت إيران إلى ممر لوصول المهاجرين من العديد من الدول ولا سيما أفغانستان إلى تركيا، ومع أي تراجع أمني يمكن أن تتضاعف هذه الأرقام، وتواجه تركيا موجات هجرة منهكِة اقتصادياً وأمنياً.
يضاف إلى ذلك كله، خشية الحكومة التركية من أن تؤدي التظاهرات المتصاعدة في إيران بدوافع اقتصادية إلى تشكيل نموذج للشارع التركي وتدفعه للتحرك، فعلى الرغم من أن الأوضاع الاقتصادية في تركيا التي تواجه بعض المشاكل لا يمكن مقارنتها بالأزمة الاقتصادية العميقة جداً في إيران، إلا أن الخشية لا تزال قائمة.