ياسين اكتاي / تركيا
تظهر الاحتجاجات التي اشتعل فتيلها أولًا في لبنان ومن بعده العراق أننا على موعد مع موجة تغيير جديدة في منطقة الشرق الأوسط من خلال الحركات الشعبية. وإن كون بيروت وبغداد عاصمتان من العواصم السُنّية التي تسيطر إيران عليها يجعل إيران أحد الأهداف الأكيدة لهذه الحركات الشعبية. ذلك أنّ النظام القائم والمستمر خلال السنوات الأخيرة في كلتا المدينتين يشكل أمرًا واقعًا قاسيًّا تحت سيطرة إيران وحمايتها، لدرجة أن البعض قال صراحة إن أحد أهداف الحركات الشعبية التي يشهدها العراق هو التأثير في إيران من الداخل.
وفي الواقع تستهدف الشعارات التي يرددها المتظاهرون في المقام الأول إيران وأنصارها في تلك البلدان. وهي الوضعية التي تجعل الكتلة المناوئة لإيران تدعم هذه الاحتجاجات. وإنّ دعم دول الخليج، التي لم تجمعها أبدًا علاقة طيبة بالتظاهرات الشعبية والحركات الديمقراطية، بشكل علني لهذه الحركات، فإذا كان يسقط ظل المؤامرة على هذه التظاهرات، ففي نهاية الأمر، فثمة ديناميات داخلية لتلك البلدان وهناك قطاعات شعبية تشعر بالضيق بشكل كبير من هذا النظام المستمر منذ سنوات طويلة.
نحن أمام وضعية صعبة تتمثل في فشل كوادر الإدارة التي حُدد عددها وفق حصص عرقية ودينية ومذهبية في لبنان لتوحيد البلاد على كلمة واحدة. ولهذا يعتقد الشعب اللبناني أن تقاسم إدارة البلاد على هذا النحو هو السبب الرئيس للفساد وكل المشاكل الاقتصادية التي تعيشها البلاد منذ انتهاء الحرب، ويرى أن الحل الوحيد لهذه المسألة هو إقامة نظام جديد مبني على المساواة بين المواطنين ويتخذ من الفرد أساسا له بشكل مستقل عن هذا النوع من نظام الحصص.
ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة ودول الخليج تدعم هذه الحركة المطالبة بالديمقراطية لأنها مناهضة لإيران، ولهذا علينا أن نعتبر هذا المطلب ليس مطلبا ونموذجا مثاليا طرحته واشنطن والعواصم الخليجية؛ إذ لم يكن لدى واشنطن أي استعداد في أي وقت من الأوقات لأن ترغب في إقرار الديمقراطية في أي بلد عربي. ولهذا فإن المطالب التي يطرحها الشعب اللبناني اليوم تتمتع بديناميات أكبر بكثير من مؤامرة تخطط لها دولة ما.
يمكننا تطبيق الأمر ذاته على نموذج العراق الذي قلّد نظامه الذي أُسس عقب الاحتلال الأمريكي لبنان من خلال نموذج حكم قائم على الحصص المذهبية والعرقية، وكأنه كان قد نجح في لبنان كي يطبقوه في العراق. وإن هذا النظام الذي أُسس برعاية الولايات المتحدة وتحت رقابتها قدّم العراق – في الواقع – على طبق من ذهب لإيران.
كان النفوذ الإيراني في العراق يراعي مصالح طهران في المقام الأول فقط أكثر من كونه يصب في مصلحة العراق ويشكل نموذجا قادرا على إسعاد شعبه الذي بدأ يحمل إيران المسؤولة عن كل حالات الفساد والفشل التي تسبب بها النظام الذي كان النفوذ الإيراني العلني يؤثر فيه بقوة. وكان الوضع يزعج السنة في البداية، لكنه بدأ بمرور الوقت يزعج كل العراقيين، بمن فيهم الشيعة الذين كانوا في طليعة المحتجين في التظاهرات الأخيرة؛ إذ أطلقوا شعارات وانتقادات تستهدف إيران بشكل مباشر.
لقد استهدفت حرب النفوذ هذه التي خاضتها إيران مراعاة مصالحها في المقام الأول، لكن هذه الحرب لم يحقق الكثير من المنفعة للشعب الإيراني، وهو ما يعتبر مشكلة أخرى تؤرق إيران التي نجحت – في الحقيقة – في تطوير نموذج اقتصادي خاص للغاية في مجال الصمود على قدميها بالرغم من الحصار وكل العقوبات السياسية والاقتصادية المفروضة عليها منذ سنوات، لدرجة أن كل العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران لا تفضي إلى النتائج المرجوة؛ ذلك أن إيران قادرة على توفير بإمكانياتها الخاصة العديد من المستلزمات الأساسية التي تساعد أي اقتصاد على الصمود. فعلى سبيل المثال إيران لديها قطاع زراعي غني وعالي الجودة، وهو ما يخلصها من التبعية للخارج. كما استطاعت إيران تطوير مواردها البشرية لدرجة لا يستهان بها بالرغم من كل هذه العقوبات التي لو تعرضت أي دولة خليجية لعُشرها أو أقل لما صمدت لثلاثة أشهر، هذا في الوقت التي نجحت فيه إيران في تحويل هذه العقوبات إلى فرص يستفاد منها اقتصادها.
لكن بالرغم من كل هذا هناك شعب يعيش داخل إيران، وإن كان قطاع كبير من هذا الشعب قد ربط مصيره بمصير بلده، إلا أن هناك قطاعا آخر لا يستهان به يشعر بحالة استياء كبيرة. ولقد كان رفع أسعار المحروقات في إيران 3 أضعاف بين ليلة وضحاها بمثابة اختبار يختبر به النظام صبر الشعب، بل إن إقدام النظام على فعل هذا في ليلة واحدة بينما كان بمقدوره القيام به بشكل تدريجي يعتبر بمثابة استعراضا للقوة أمام الجميع. لكن يبدو أن استعراض القوة هذا سيكلف النظام الكثير. ذلك أن رد فعل الشعب كان شديدا للغاية. أي أن الاحتجاجات لم تطلق من الخارج، بل تستند إلى سبب في غاية التحريض من جانب الحكومة، أي من الداخل.
بيد أن التصريحات التي أدلى به وزير الخارجية الأمريكي بومبيو بشهية كبيرة عندما قال “نساند الشعب الإيراني” تشبه العبارات التي يقولها الحانوتي الذي يظهر في أحد مشاهد فيلم كوميدي.
لم تقف أمريكا أبدا إلى جانب الشعب الإيراني، بل لم تقف أبدا إلى جانب أي شعب من شعوب الشرق الأوسط، بل إنها استغلت بعض الشعوب أحيانا، لكنها لم تقف إلى جانب أحد. لكن سرعان ما جرت تلك الشعوب التي استغلتها نحو هاوية الكارثة. وأما معظم المشاكل يعيشها الشعب الإيراني اليوم فهي ناجمة عن السياسات الأمريكية.