طلبت أثينا من السفير الليبي لديها مغادرة البلاد وذلك ردا على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا الذي وقع في 27 نوفمبر الماضي، وأعلن وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس أن القرار تعبير عن استياء بلاده من الحكومة الليبية في طرابلس كونها لم تراع «القواعد التي وضعتها اليونان»، وبلغ الغضب اليوناني درجة التهديد بالاستعانة بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الذي تعتبر أنقرة من كبار أعضائه).
أما القيادة المصرية، الغارقة لأخمصها في الشأن الليبي عبر دعم الجنرال خليفة حفتر سياسيا وعسكريا، فقد أصدرت مع أثينا بيانا لشجب الاتفاق واعتباره مخالفا للقانون الدولي، وشاركت الجهات المحسوبة عليها في ليبيا، مثل عقيلة صالح، رئيس مجلس نواب طبرق، في المعركة عبر دعوة الجامعة العربية والأمم المتحدة لسحب الشرعيّة عن حكومة «الوفاق» في طرابلس.
الحقيقة أن اليونان ومصر، بالإضافة إلى إسرائيل وقبرص، كانوا سباقين في محاولات السيطرة على البحر الأبيض المتوسط وتقسيم المناطق الاقتصادية البحرية، وقد أنشأت هذه المجموعة مشروعا مشتركا لإنشاء سوق لبيع الغاز الطبيعي بعد تدشين ما يسمى «منتدى شرق البحر المتوسط» (بمشاركة لبنان وإيطاليا)، وقد لقي هذا المشروع تغطية سعودية وإماراتية، كما حصل على دعم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بغرض مزاحمة النفوذ الروسي في مجال الطاقة غرب آسيا وشرق أوروبا.
أما «القواعد التي وضعتها اليونان»، فتتمثل حسب صحيفة تركية، باستيلاء أثينا على نحو 39 ألف كم مربع من المياه الإقليمية الليبية، وقد قامت طرابلس في أكتوبر الماضي بإرسال مذكرة إلى الأمم المتحدة تؤكد فيها عدم اعترافها «بالاغتصاب اليوناني للمياه الليبية»، وحين نعرف أن الاتفاقية التركية الليبية ستساهم في الحفاظ على الحدود الغربية الليبية مقابل جزيرة كريت اليونانية، فسنفهم سبب العصبية اليونانية المبالغ فيها.
ورغم أجواء التوتّر المستمرة بين القاهرة وأنقرة المتواجهتين على جبهات سياسية عديدة، فإن الموقف المصري الأخير على لسان وزير خارجية مصر سامح شكري، والذي يقول إن الاتفاق التركي الليبي لا يمس مصالح مصر «ولكنه يعقد الموقف في المنطقة»، يعبّر عن إحساس مصريّ مبطّن عن التعدّي اليوناني على الحدود الليبية.
إضافة إلى كل هذه الحيثيّات الجغرافية والاقتصادية (على الجانب اليوناني)، والاقتصادية/ العسكرية / السياسية (على الجانب المصري)، فهناك حيثيّات تاريخيّة حسّاسة، وخصوصا من ناحية اليونان، مع تركيا، فقد كانت اليونان تحت السيطرة التركية حتى عام 1832، وجرت بين البلدين عدة حروب كان آخرها حين قامت اليونان خلال الحرب العالمية الأولى بشنّ غزو لتركيا وصل إلى حدود أنقرة ولم ينته حتى عام 1922، وهناك صراع بين البلدين على السيادة على بحر إيجة، وهناك أزمة قبرص التي لم تحلّ حتى الآن، وهناك مشاكل الهجرة التي دفعت أثينا لبناء سياج حدود بطول 12.5 كم.
ما يحاوله الاتفاق الليبي ـ التركي هو إعادة التوازن إلى البحر الأبيض المتوسط الذي قامت اليونان بالإخلال به عبر سيطرتها على حيّز جغرافي كبير من الحدود البحرية الليبية، كما أنه يقوم، في شقّه العسكريّ، بنقلة محسوبة لصالح حكومة «الوفاق» الليبية التي تكاثر أعداؤها ووضعتها وحشيّة الغارات الجويّة لخصمها حفتر، والتواطؤ الغربي والتدخّل العسكري الروسي عبر مرتزقة فاغنر، وكذلك العطالة الأممية، في موقف لا يمكنها معه سوى اللجوء إلى حليف قويّ كتركيّا، التي انتهزت الفرصة أيضا لرفع رايتها بين القوى المتنافسة على الغاز والمصالح الاقتصادية في المتوسط.