إن المسار الطويل والشاق والمكلف الذي اختطه المغرب لحماية المصالح الوطنية في الحدود الشمالية منذ أزمة 2002 استغرق من المملكة عقدين من العمل وملايين الدولارات: بنية تحتية كبرى بمدن الشمال، معلمة ميناء طنجة المتوسطي، عودة المغرب إلى نفوذه البحري، من خلال القاعدة العسكرية للقصر الصغير وتطوير الأسطول البحري على الحدود، خنق المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية اقتصاديا لهدم التهريب المعيشي ثم تقنين زراعة “الكيف”…
يفرض على صناع القرار تقدير مدى مردودية النزاع مع إسبانيا وأفقه الذي لن يذهب إلى أبعد بحكم المصالح المشتركة. وفي تقديري يجب النظر إلى أبعد مدى في تقييم طبيعة الصراع المغربي الإسباني الذي ينفجر بين الفينة والأخرى، إنه يكمن بعيدا في عمق التاريخ، أبعد مما انفجر مع أزمة جزيرة ليلى عام 2002، وأقوى مما يحدث اليوم من تداعيات التراشق الدبلوماسي بن الرباط ومدريد.. لتفكيك العقد التي تحول دون تواصل جيد بيننا وبين الإسبان الأمر يحتاج إلى مجهود ثقافي وفكري بعيد المدى يقوم به الحكماء من الجانبين لمواجهة الحقائق التاريخية بجرأة وتحويل الأعطاب إلى دعائم للتفاهم، فما ينفجر بين الفينة والأخرى يجب النظر إلى مسبباته العميقة، ما تراكم من جراح عميقة بين البلدين من الجغرافيا إلى التاريخ، من الاستعمار إلى حركة التحرير المغربي… ي
قول ألفونصو ذي لاسيرنا في كتابه “جنوبي طريفة المغرب وإسبانيا: سوء تفاهم تاريخي”: “ظلت الحقائق الجغرافية والتاريخية تقيم عبر القرون حدوداً منقوشة بالعقبات بين هذين البلدين اللذين نسميهما اليوم، على التوالي، المغرب وإسبانيا، في المقام الأول، هناك العقبة الطبيعية المتمثلة في البحر في مضيق جبل طارق، هذا الخندق المائي الذي يبدو أنه انفتح، ربما في عهود جيولوجية غابرة، على البرزخ الذي كان يربط بين القارتين: أوربا وإفريقيا.
وفي المقام الثاني، هناك العقبة السياسية الهائلة التي نصّبها تاريخ الحروب: الغزوات والاستردادات، الحروب “الجهادية” والحروب “الصليبية”، الاحتلالات العسكرية والاستعمارات، اللقاءات الفاشلة والماسّات المثيرة للغضب. ولكن بالأخص، وهو ما يصعِّب أكثر هذه الحدود النزاعية، هناك الحاجز النفسي الذي انتصب نتيجة كل ذلك، إنه سياج ذهني منع في ظن كثير من الإسبان والمغاربة وجود رؤية واضحة متبادلة، طمس التفاهم بين البلدين، مُحولا “العبور الروحي” للخط الذي يفصل بيننا إلى شيء محفوف بالمخاطر”.
على إسبانيا أن تخرج من قلقها التاريخي المزمن، فلن يعود طارق بن زياد اليوم لفتح الأندلس، وعليها أن تتخلص من كتبها القديمة التي صورت عبور طارق بجيشه للمضيق الذي حمل اسمه، كلحظة مليئة بالعنف والعويل والقتل واللعنة، حيث يتصور المتخيل الإسباني أن مع جنود طارق بن زياد وسفنه جاءت كل الكوارث الطبيعية.. الأعاصير والطاعون والجوع والرائحة الصفراء للموت الناتج عن هذا العبور الإسلامي الذي قاده “الموروس”..
وليس بإمكان فارس الظل الحزين دون كيشوت أن يعبر البحر الأبيض المتوسط بسيفه الخشبي وخوذته البالية وحصانه الهزيل “روسينانتي” ليعيد لإسبانيا أحلام الفرسان النبلاء، ولم يعد هناك جار ساذج مثل “سانشو” ليصدق المعارك الوهمية والبطولات الزائفة لدون كيخوتي دو لا مانشا، الذي وإن التقى طارق بن زياد لن يقيما حفلا للعشاء الأخير سوى في الكوميديا الإلهية لدانتي أو داخل قلعة رسالة الغفران للمعري.
إن الوقائع اليوم هي التي تنطق في عالم متسارع الخطى، وعلى حافة تغيير حضاري كبير، يفرض الخروج من مآزق الماضي واستشراف المستقبل بروح وفاقية.
ويجب أن تتخلى إسبانيا عن رهابها الفظيع حول حلم استعادة المغرب المسلم للفردوس المفقود كما فعل المرابطون والموحدون ومن تلاهم، وأن تتخلص من الاستعمار الابن الأكثر بلادة الذي أنجبته الفورة الاستعمارية الإمبريالية، إنه زمن مغاير يستوجب استحضار المصالح المشتركة وإعطاء الحوار الندي فرصة لتذويب كل عقد التاريخ والجغرافي.
وعلى المغرب أن يقدر حجمه وقوته الحقيقية خارج كل الأوهام، ومن حقه الدفاع عن مصالحه ويطالب بالندية والتشارك، لكن عليه أيضا أن يحسن إتقان الوسائل المؤدية إلى خدمة هذه المصالح؛ هذا هو السبيل الوحيد ليزيل عنه صورة الجار المقلق غير المؤتمن الذي يمكن أن تأتي منه كل الشرور، ويعي حجم التحول الإستراتيجي الذي سيجعل المحيط الهادي والأطلسي الطريق البديل للمتوسط.