عادل بن حمزة ، محلل سياسي
في 28 تشرين الثاني(نوفمبر) 1976 أشرف الجنرال غوميس سالازار الحاكم الإسباني للصحراء المغربية، عندما كانت تحت الاحتلال، على إنزال العلم الإسباني ورفع العلم المغربي بحضور محافظ إقليم الصحراء الراحل أحمد بنسودة الذي شغل منصب مدير الديوان الملكي ومستشار للملك الراحل الحسن الثاني لسنوات طويلة. جاء ذلك تنفيذاً للاتفاقية الثلاثية بين المغرب وموريتانيا وإسبانيا التي عرفت باتفاقية مدريد، والتي أنهت عهد الاستعمار الإسباني للساقية الحمراء ووادي الذهب الذي امتد منذ 1884، وشكل ذلك تتويجاً لمسار طويل خاضه المغرب منذ حصوله على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة سنة 1956، فقد طرحت المملكة المغربية موضوع تحرير الصحراء أمام لجنة الوصاية، وشكل هذا المطلب نقطة دائمة تتكرر كل سنة، وذلك إلى حدود كانون الأول (ديسمبر) 1960، تاريخ إحداث لجنة تصفية الاستعمار، وقد تفاعل المنتظم الدولي إيجابياً مع المطلب المغربي، بل صدرت قرارات أممية سنتي 1964 و1965 تندد بالاستعمار الإسباني وتطالب مدريد بتصفية الاستعمار في الصحراء وسيدي إفني (مدينة مغربية تعتبر حاضرة قبائل أيت بعمران تم تحريرها من الاستعمار الإسباني سنة 1969)، وبالدخول في مفاوضات بشأن القضايا التي تطرحها مسائل السيادة.
هذه الوقائع التاريخية تثبت مسألتين رئيسيتين، الأولى أن إسبانيا المستعمر السابق للصحراء، تعرف جيداً خبايا القضية المفتعلة في الصحراء المغربية، وتعلم أكثر من غيرها أن عملية تصفية الاستعمار تمت، وأن الحكومة الإسبانية على عهد الجنرال فرانكو، أقرت سيادة المغرب على الصحراء باعتباره صاحب السيادة الأصلية، المسألة الثانية هي إقرار إسبانيا من خلال الوقائع على الأرض، أن المغرب هو الطرف الوحيد الذي كان مدعواً للتفاوض معها بخصوص تصفية الاستعمار سنوات طويلة، قبل إحداث العقيد القذافي وهواري بومدين للجبهة الانفصالية، وأن عملية الانسحاب الإسباني من الساقية الحمراء ووادي الذهب، كانت استمراراً لانسحابها من طرفاية سنة 1958 وسيدي إفني سنة 1969، بل إن المفاوضات التي جمعت المغاربة بالإسبان في مدينة سنترا البرتغالية سنة 1958 بخصوص مدينة طرفاية، شهدت واقعة مهمة تمثلت في رفض الوفد المغربي الذي كان يقوده المرحوم أحمد بلافريج، طلباً إسبانياً تمثل في كون مطلب تحرير مدينة طرفاية هو آخر مطلب مغربي بخصوص السيادة على مدن الصحراء، وهو ما رفضه الوفد المغربي ساعتها، ويشهد التاريخ أن القوات المسلحة الملكية المغربية دخلت مدينة طرفاية بعد ساعات قليلة من تعثر تلك المفاوضات، ومن دون أدنى مقاومة من القوات المسلحة الإسبانية.
في نهاية الأسبوع الماضي، وفي سياق الأزمة الدبلوماسية العميقة بين المغرب وإسبانيا، كشفت وسائل إعلام مغربية وإسبانية أن وزيرة الخارجية الإسبانية أرانشا غونزاليس لايا، أبدت استعداد بلادها النظر في أي حل يقترحه المغرب بخصوص قضية إقليم الصحراء، وأن مدريد تتفهم أن الرباط حساسة للغاية بشأن هذه القضية، جزء من الإعلام المغربي ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي اعتبروا أن ما صرحت به لايا يعد تحولاً في الموقف الإسباني المتشنج خاصة، بعد الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء، غير أن الحقيقة ليست كذلك، لأن المغرب قدم فعلاً منذ 2007 حلاً واقعياً أمام المنتظم الدولي يتمثل في تمكين إقليم الصحراء من الحكم الذاتي، وهو الحل الذي وصفه مجلس الأمن بالجدي وذي المصداقية والذي على أساسه صاغ رؤية لحل سياسي ينهي صراعاً مصطنعاً دام أزيد من أربعة عقود. وعلى هذا الأساس طوي موضوع الاستفتاء الذي جاء به مخطط التسوية بداية التسعينات، نظراً لاستحالة إنجاح مسلسل تحديد هوية المصوتين في الاستفتاء، وقد عبر المغرب في أكثر من مناسبة أن الحكم الذاتي، هو أقصى ما يمكن أن يقدمه وسط دعم دولي واسع، معنى ذلك أن ما تنتظره وزيرة الخارجية الإسبانية اليوم هو ما يجري البحث أممياً على جعله حلاً نهائياً للنزاع المفتعل منذ 2007، وهذا يدل على أن مدريد، ورغم ما يمكن اعتباره انحناءً أمام العاصفة المغربية، ما زالت وفية للغة الرمادية ولعبة الأقنعة وعدم القدرة على الوضوح مع الجار الجنوبي، لكن ما يظهر أكثر هو حقيقة أزمة صناعة القرار داخل الدولة الإسبانية نتيجة للتحول الذي يعرفه النسق السياسي الإسباني في السنوات الأخيرة، خاصة بعد انهيار نظام الثنائية الحزبية وظهور أحزاب شعبوية في أقصى اليمين وأقصى اليسار، من دون إغفال أن هذا التحول أثر أيضاً في طبيعة السياسيين الذين يوجدون اليوم في صدارة المشهد الحكومي والحزبي الإسباني، حيث تغيب شخصية رجل الدولة كما مثلها مثلاً فليبي غونزاليس، بل الأمر يتجاوز ذلك إلى المخاطر الجدية التي تهدد الديموقراطية في إسبانيا، فقد مثلت فضيحة دخول زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مناسبة ظهر فيها ارتباك البنية المؤسساتية وأسئلة كبيرة عن دور الجيش ومؤسسة القضاء، فقبل ثلاثة أسابيع ساءل القضاء الإسباني المؤسسة العسكرية عن كيفية دخول غالي إلى الأراضي الإسبانية (تم استعمال مطار عسكري) بعدما تنصل الحرس المدني من العملية المشبوهة…
أزمة الديموقراطية في إسبانيا تظهر أيضاً في كيفية تدبير مدريد لموضوع استقلال كتالونيا، وفائض العنف الذي لجأت إليه حكومة مدريد لمواجهة الحركة الاستقلالية، بما في ذلك التعاطي مع قادت الحركة الذين أعادت لهم المحكمة الأوروبية الحصانة البرلمانية مؤقتاً وطالب مجلس أوروبا بإطلاق سراحهم مع باقي المعتقلين وإلغاء مذكرات البحث بحق زعيم الحركة الانفصالية بوتجديمون وباقي الزعماء الكاتالونيين المتابعين، هذه القرارات تمس في العمق طبيعة الممارسة الديموقراطية في إسبانيا.
لقد انتهى الصراع بين الرباط ومدريد بخصوص الصحراء المغربية قبل أربعة عقود بهزيمة إسبانيا وبداية التحول الديموقراطي فيها مع نهاية عهد الجنرال فرانكو، فهل تكون الأزمة الحالية بين البلدين والتي توجد الصحراء في صلبها، منطلقاً لتحول سياسي جديد في الجارة الشمالية يعزز جودة الديموقراطية بها ويزيل عنها كثيراً من الأقنعة غير الضرورية…