صورة تعبيرية
أمام توالي الأحداث المجتمعية، وتزايد التنافرات المرتبطة بالايديولوجيات الفكرية، المصبوغة بمفهوم الحياة السياسية، وفي خضم الجدل القائم والمتصل بعوامل موضوعاتية وغير موضوعاتية. تطرح مجموعة من الإشكاليات، المرتبطة بحقيقة المواقف، والشعارات التي دأبت عليها الكثير من الوجوه الحزبية والسياسية. والتي مفادها أن للسياسة ساسة، وتبخيس العمل السياسي فيه خطر على استمرار العلاقة المتصلة، بمنسوب الثقة بين من أعطوا لأنفسهم إسم الفاعلين السياسيين، وبين المواطن المغلوب على أمره بفعل تراكمات السجال المرتبط بالتموقعات في لعبة سياسة يجمع الشعب على أنها غير سليمة، وتنافي قيم الديمقراطية الحقيقية، المبنية على الصدق في الأقوال والأفعال، والابتعاد عن الانجرار اللا محدود للمصالح الشخصية، المتناقضة تماما مع المقاربات التشاركية، وتوزيع الثروة، والعهد الجديد، ودولة الحق والقانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد مبدأ الاستمرارية في الثقة ونكران الذات.
ولعل تبخيس المشهد السياسي، يرجع أصلا للتناقضات
الصارخة، بين أقوال من يسترزقون بالعمل السياسي، مستغلين الفراغ والعزوف، لأغلب أفراد الطبقة الوسطى الواعية، القادرة على تحليل الأمور، والتي لا تنطوي عليها فكرة التابع للمتبوع، مهما كلف الأمر، باستثناء ثلة ممن تم تخذيرهم بعقيدة الولاء، لمرجعيات متنوعة، أو المصالح المرتبطة بالولائم، وقضاء الأغراض، والتغطية على الاخفاقات، والفضائح، وتحويلها في اتجاه المجهول، باسم ما اصطلح عليه الدولة العميقة المفترى عليها في الكثير من الأحيان!
الشباب موضوعنا
الشباب ثروة حقيقية اغتنامها يساهم كثيرا في الدفع بعجلة التقدم كلما أتيحت لهم الفرصة والإمكانيات الضرورية لإبراز ما يمتلكون من طاقات هائلة تجعلهم أساس كل نهوض وإقلاع حضاري، فهُم يمثلون الذخيرة التي يعتز بها أي بلد يحاول أن يرسم لنفسه مستقبلا زاهرا، ومجرد النظر إلى هذه الفئة نظرة تقدير واحترام قد تدفعها لإنتاجية إبداعية متواصلة، ومن الأخطاء الفادحة عدم تشجيع هذه الطاقات على العطاء الإبداعي والإنتاج المتميز، فلا يمكن الاستفادة مما عند هؤلاء واستثمار ما يمتازون به عندما يحسون بالتهميش ويغيب الاستغلال الجيد والنموذجي؛ هنا يتجسد خطر كبير وتصبح هذه الكفاءات عرضة للضياع، لأنها تبقى حبيسة وغير مفعلة، وربما تستعمل بشكل خاطئ فيما يعود على بلدانها بالضرر، فإهدار طاقات الشباب من أعظم وأشد الآفات الفتاكة بالمجتمعات.
وللأسف الشديد في البلدان العربية لا يعد الشباب عز الأوطان؛ ويتجلى ذلك في واقعهم البئيس فهُم مسلوبي الإرادة التامة المسؤولة عن إظهار القدرات والمهارات المتميزة بالرغم من توفرهم على مخزون طاقي هائل، فالذين يملكون زمان السلطة في هذه الدول يحاربون الطاقات الشابة ويحاولون قبرها بكل ما أوتوا من قوة، وإن بدا عكس ذلك في خطاباتهم الرنانة التي يلجأ إليها لطمس الحقيقة المناقضة لما يتفوهون به بألسنتهم الكذابة؛ فما يحمله حديثهم المنمق مناف لما يقومون به من أفعال إبليسية، وهناك مؤشرات لها دلالات قوية تدل على أنهم يبذلون كل ما في وسعهم من خبث لإقصاء هذه الطاقات؛ كأنه ليس من حقها إبراز ما عندها، لذا يتم التضييق عليها لكي لا يبزغ نجمها، وهذا ما يعكس وضعا مأساويا مقلقا بامتياز.
إنه لمن أعظم صنائع الأفعال المهلكة التي تصنع بشبابنا: زرع بذور اليأس في هذه النفوس المشحونة بالأمل الواعد في غد أفضل والتواقة للتغيير الإيجابي والإصلاح الحقيقي، فتوطيد مشاعر الإحباط والتفكير العدمي والسلبي في عقول وقلوب شبابنا والتحكم في تحديد التوجهات والاختيارات، ما هو إلا نتاج انتشار الفساد الذي يحاول بسط سيطرته الكاملة، وعدم ترك المجال للشباب ليكونوا في الواجهة، لهذا يقذفونهم ويعدمون الاهتمام بهم، حتى يراهم العامة في تلك الصورة المقصودة، فيحكمون عليهم بأنهم أشخاص غير ناضجين ويفتقدون للاتزان الكافي، ويريدون فقط الوصول إلى القمة من دون تقديم التضحيات أو بذل المجهودات، وهذا ما قد يدفع بالكثير من الشباب إلى الاستسلام وإعلان الهزيمة بعد كبح جماح طموحاتهم، والحد من اندفاع تفاؤلهم تجاه الآفاق التي يتطلعون إليها والمسارات التي كانوا ينوون السير فيها.
من العيب أن يتخلى الوطن عن طاقاته الشابة فيستقطبها بلد آخر، فهجرة هذه الكفاءات بشكل سنوي للعمل في الخارج مستغلة بذلك عدم جاذبية مناخ بلدها الأصلي ولغياب الحقوق الأساسية والبنية التحتية اللازمة والتحفيزات المستحقة، فضياع هذه الطاقات لا يحصل فقط بمحاربتها بل إن إهمالها وعدم احتضان أفكارها ورؤاها ومشاريعها المقترحة هو استهداف مغرض لإبعادها عن مواقع القرار، مما يعني منعها من الاندماج الريادي في مختلف مجالات الحياة لتكون بارزة ولها دور قيادي، ومن المخز أن يتم وضع شروط انبطاحية لنيل حق مشروع، فمحاربة الطاقات الشابة في ظل التحديات التي نواجهها حول العالم، سيؤدي لا محالة إلى تنامي العنف المجتمعي والأسري وضياع القيم والسلوكيات الحميدة المنشودة، وبث الكراهية البغيضة في قلوب أبناء المجتمع الواحد، وهذا ما يتسبب في دفعهم إلى التحول من طاقة للبناء إلى قوة للهدم وخلق المشاكل والأزمات.
كيف يمكن للطاقات الشابة أن تؤمن بخطابات حربائية وتثق في وعود مدججة بالكذب؟ سيصبح من السذاجة والغباء المطبق أن تطمع هذه الطاقات بقدراتها في الاشتراك في صناعة القرار وتحمل المسؤولية في مختلف القطاعات الحيوية بشرف مع هؤلاء المتسلطين اللاأخلاقيين الذين يضعون عراقيل وحواجز تمنع الشباب المتميز من إفساح المجال للتعبير عن الآراء والأفكار والطموحات، لتجد هذه الكوادر الشابة نفسها مطوقة بقيود مجحفة، ومعايير لا تخدم إلا أصحاب السلطة، فتختار الانسحاب من معترك دنيء لا يضم سوى الوجوه الفاسدة التي تدعم خارجيا وداخليا، وتتجسد بذلك لدى هذه الطاقات الشابة حالة من النفور، وتنهج جراء ذلك ردة فعل تمردية بعد تجرعها للكثير من السخط والاستياء تجاه ما حصل معها، لهذا نرى عزوفا عن المشاركة الفاعلة، فلا يمكن مخالطة الفاسدين ولا الثقة في خطابهم في ظل غياب المصداقية التي تمكن من تجسيد خطاباتهم على أرض الواقع بشكل حقيقي.
ومن صميم واجبات القائمين على تسيير شؤون البلدان العربية جعل الطاقات الشابة ضمن أولى أولوياتهم، لأن العناية بها يكاد يكون منعدما خصوصا مع وجود استراتيجيات ومخططات تتبناها هذه الدول والتي تقصي بشكل علني الاهتمام بهذه الفئة وتتجنب طرح ما يتعلق بهم وما يواجهونه من مشكلات، الشيء الذي يظهر في غياب تنزيل البرامج العملية لحل هاته المشاكل والنهوض بأوضاع الشباب، بالإضافة إلى أن معظم قضاياهم لا تحتل مكانا بارزا عند صياغة السياسات الوطنية والقوانين الحاكمة، وهذا ما يثبت نقطة مهمة تتمثل في عدم منح أي اعتبار للشباب المتميز، بحرمانهم من تفعيل مشاركتهم في عملية التنمية المجتمعية الشاملة التي هي أحد أولويات العمل الوطني في الدول المتقدمة، والسؤال الاستنكاري الذي يفرض نفسه هنا: من المسؤول عن ضياع الطاقات الشابة في البلدان العربية؟ أليسوا هم القائمين على المؤسسات التي تمتلك السلط المركزية الثلاث، لأنهم شركاء أساسيين فيما آل إليه وضع هذه الطاقات لما لهم من دور بارز في ذلك، فإذا أردنا استقرارا حقيقيا وتنمية شاملة في مجتمعاتنا، فعلينا الاعتناء بالكوادر الشابة وإعلاء قيمتها، بأن نوفر لهم كل ما يساعدها على حسن استخدام طاقاتها الإبداعية الكامنة بدواخلها؛ للاستفادة منها بنجاعة في مسيرة البناء والنهوض.