قدم الكتاب الأبيض، الذي صدر عن أربعة مراحل لقضية الصحراء، أولها بعنوان: “التفكيك الاستعماري للإمبراطورية المغربية الشريفة في القرنين التاسع عشر والعشرين”، ويوضح أن هذه الإمبراطورية كانت ذات حدود معترف بها على الصعيد الدولي إبان احتلالها، وأن قبائل الصحراء لطالما كانت تابعة للمغرب الذي يحترم دائما الشرعية الدولية بخصوص قضية الصحراء، بينما يتحدث الفصل الثاني من الكتاب، عن الوضعية الراهنة للأقاليم الجنوبية، وكيف تم إعطاء الأولوية للتنمية واللامركزية واستمرارية التنمية في عدة مجالات برعاية ملكية سامية، والاستراتيجيات الوطنية والإقليمية التي جعلت الإنسان المغربي في صميم أولوياتها، وبالنسبة للفصل الثالث، فقد ركز على الوضعية الحالية للمحتجزين في مخيمات تندوف، أما في الفصل الرابع، فقد كشف الكتاب عن تورط الجزائر في النزاع المفتعل باعتبارها طرفا رئيسيا، وإصرارها على استمرار النزاع على حساب التنمية والوحدة المغاربية.
يؤكد الكتاب الأبيض لقضية الصحراء المغربية، أن المغرب كان في نهاية القرن التاسع عشر يسمى “الإمبراطورية الشريفة” إلى سنة 1891، ممتدا جنوبا إلى مدينة الكويرة وجنوبا حتى أراضي مالي، ويضم الصحراء الشرقية التي قامت فرنسا بالاستيلاء عليها، لكونها منطقة غنية بالنفط والغاز، وألحقتها بـ”الجزاير الفرنسية”، ثم ورثتها الجزائر المستقلة رغم تشبث سكانها بمغربيتهم وإعلانهم ذلك.. فمنذ نهاية الحماية الفرنسية عام 1956، لم يتوقف المغرب عن المطالبة بالإنهاء الكامل للاستعمار في جميع أراضيه، لاسيما في الصحراء، أي المنطقة الواقعة بين طرفاية في الشمال والرأس الأبيض في الجنوب، وهي المنطقة الممتدة على مساحة 266 ألف كيلومتر مربع، والتي استحوذ عليها الاستعمار الإسباني في الفترة ما بين 1884 و1975، حيث أعادت إسبانيا هذه الأراضي في 20 نونبر 1975 عقب المسيرة الخضراء، التي أعلن عنها الملك الراحل الحسن الثاني، وشارك فيها 350 ألف مواطن مطالبين بتحرير الصحراء.
إن قضية الصحراء المغربية صراع مصطنع لا تواجه فيه المملكة المغربية حركة انفصالية مسلحة فقط، أي جبهة البوليساريو، بل تواجه في الواقع وقبل كل شيء، دولة الجزائر، التي تستغل تلك الحركة وتدعمها بكل الوسائل، عسكريا ودبلوماسيا وماليا، وكذا عن طريق وسائل الإعلام، وقد أدى استمرار هذا النزاع إلى إطلاق مسلسل أممي في إطار منظمة الأمم المتحدة بطلب من المغرب، بهدف تسوية الملف سلميا.
الإمبراطورية المغربية قبل الاستعمار
لا يمكن الفصل بين الاستعمارين الإسباني والفرنسي، بالرغم من الخلاف بينهما إبان تنافسهما على احتلال أكبر جزء من الصحراء المغربية، إلا أنهما توصلتا إلى اتفاق من أجل تقاسم أراضي الإمبراطورية المغربية الشريفة وإقصاء القوى الاستعمارية الأخرى، بريطانيا وألمانيا، وكانت كلتا القوتين تعرفان عموما المجال الجغرافي الذي كانت تمتد فيه حينها الدولة المغربية، فقبل الاحتلال، تم إرسال العديد من البعثات الميدانية الاستكشافية، الطويلة والمتقطعة والمتتالية، من قبل علماء الجغرافيا والجنود ورجال الدين وغيرهم، بهدف دراسة الإمبراطورية الشريفة والتعرف على أراضيها وسكانها بطريقة معمقة، ويرتبط تعريف الإمبراطورية بالامتداد الشاسع للأراضي الواقعة تحت سيادتها، والتي تخضع لسلطة مركزية، حيث يشهد استعمال القوى الأوروبية لمصطلح الإمبراطورية الشريفة في وثائق مختلفة “مراسلات، معاهدات..”، على اعترافها بسيادة الأخيرة على الامتداد الشاسع لأراضيها.
وقد تبنت الدول الأوروبية نفسها تسمية المغرب تارة، وتسمية الإمبراطورية الشريفة تارة أخرى، مثل معاهدة 9 دجنبر المبرمة مع المملكة البريطانية العظمى وإيرلندا، ومعاهدة السلام سنة 1860 بين المغرب وإسبانيا، ومع ذلك تم التخلي عن هذا الاسم تدريجيا تماشيا مع اتفاقيات تقسيم الأراضي المغربية المبرمة بين فرنسا وإسبانيا وتواطؤ القوى الأوروبية الأخرى، حيث توافق هذا التطور الدلالي مع العديد من الحملات العسكرية الهادفة إلى التفكيك المنهجي للأراضي المغربية، خاصة من قبل فرنسا وإسبانيا.
قبل سنة 1880، كانت حدود الدولة المغربية الشريفة ممتدة حتى ضفاف نهر السنغال، وشملت الأراضي والسكان الخاضعين لسيادتها، الصحراء الأطلسية، بما في ذلك الساقية الحمراء ووادي الذهب، التي سميت فيما بعد بـ”الصحراء الإسبانية”، ثم “الصحراء الغربية”، وتختلف الحدود بينهما حيث لا يحيل مصطلح “الصحراء الغربية” على المنطقة التي قامت إسبانيا باحتلالها فقط.. فقد رسمت حدودها بالمسطرة وفقا للقرارات المتخذة بعد مؤتمر برلين 1884-1885، على يد كل من فرنسا وإسبانيا في إطار اتفاقهما على تقسيم أراضي الإمبراطورية الشريفة، إذ كانت فرنسا تريد دفع حدود “الجزائر الفرنسية” إلى المحيط الأطلسي، مما يدل على أن تنافسها مع إسبانيا كان مستمرا ولم ينته.
مؤتمر مدريد 1880.. اتفاقية “فرض الحماية”
تم توقيع اتفاقية فرض الحماية على المغرب خلال مؤتمر مدريد 3 يوليوز 1880، في عهد السلطان مولاي الحسن، إذ كان الغرض هو إنشاء نظام لحماية المواطنين الأوروبيين الذين يشغلون وظائف رسمية، مثل القناصل ونوابهم، والموظفين القنصليين، ورؤساء البعثات، وكذلك للمغاربة العاملين في خدمتهم، ومن ناحية أخرى، يتعلق الأمر بمنح حق الملكية الخاصة على التراب المغربي لجميع الأجانب، وأخيرا ألزمت الاتفاقية المغرب بمعاملة الموقعين عليها وفقا لشرط الدولة الأكثر رعاية، مما يعني أن أي ميزة تمنح لأحد الموقعين تمتد تلقائيا إلى الآخرين.. فقد تم الحصول على هذه “الحمايات” في ولايات السلطان، أي على مجموع الأقاليم والأراضي الخاضعة لسيادته، وبما أن إسبانيا طرف في الاتفاقية نفسها، استفادت من هذه المزايا في مناطق الصحراء الأطلسية المغربية، ولا يجوز التأكيد لإسبانيا بأن هذه المناطق ليست مغربية حتى لو قامت في الوقت نفسه بإبرام اتفاقيات مع بعض زعماء القبائل.. فقد استمر هؤلاء الزعماء في تقديم البيعة للسلطان المغربي، وكانوا يحظون بحمايته ويعتبرون أنفسهم ممثلين له، ولاسيما فيما يخص الدفاع عن البلاد في مواجهة أي تدخل أجنبي، ولم يتم إقرار هذه السيادة عبر البيعة فقط، بل عبر العديد من الظهائر الشريفة المتعلقة بتعيين ممثلين فعليين للسلطة المركزية في الصحراء، على غرار الخلفاء والقياد وغيرهم.
فقد ألزمت الاتفاقية الموقعة بين جميع الأطراف الاعتراف المطلق بسيادة المغرب على الأراضي التي تسري فيها أحكام الاتفاقية بحكم الأمر الواقع، بما في ذلك الصحراء، كما تعترف وزارة الدفاع الإسبانية في فهرس دراستها المونوغرافية، بسيادة المغرب على المنطقة المسماة “الصحراء الإسبانية”، ومن الواضح أن الأراضي الواقعة شمال الرأس الأبيض كانت جزء لا يتجزأ من المغرب، بما في ذلك الأقاليم الصحراوية المسترجعة.
ورغم هذا، فقد أنشأت فرنسا وإسبانيا مستعمرة “الصحراء الإسبانية”، التي أصبحت فيما بعد “الصحراء الغربية” في الأراضي الخاضعة للسيادة المغربية، وذلك رغبة منهما في تسوية النزاع المتعلق بمناطق نفوذ كل منهما مع تجنب المواجهة العسكرية التي كان من شأنها أن تضعهما معا في مواجهة المملكة المتحدة، وربما المغرب، ويؤكد هذا الطرح ما تظهره الخرائط بوضوح، وبذلك انتهكت هاتان الدولتان عن قصد وسابق إصرار التزاماتهما تجاه المغرب الذي اعترفتا بسيادته على الصحراء بتوقيعهما اتفاقية مدريد 1880.
الاحتلال الإسباني للصحراء المغربية
في عام 1883، أنشأ المؤتمر الإسباني للجغرافيا الاستعمارية والتجارية في مدريد، الجمعية الإسبانية لخبراء الحضارة الإفريقية والمستعمرين، بهدف خلق مستعمرات إسبانية دائمة في سواحل الصحراء، وقد طلبت من أجل ذلك الحماية المسلحة من الحكومة، حيث أنه في دجنبر 1884، بدأ التحرك العسكري وأخبرت الحكومة الإسبانية القوى الأوروبية بأنها قامت بالسيطرة على الساحل الأطلسي، بين رأس بوجدور والرأس الأبيض، وهي تعلم جيدا أنها أراضي مغربية، منتهكة على هذا النحو معاهدة السلام المبرمة في تطوان سنة 1860، مثلما فعلت فرنسا مع معاهدة “للامغنية” سنة 1845.
وبالرغم من قيام إسبانيا باحتلال الداخلة سنة 1884، إلا أنها لم تصل إلى السمارة ولم تبسط السيطرة عليها إلا في عامي 1934 و1938 تباعا، وخلال مؤتمر برلين، طالبت إسبانيا بالسيطرة على المنطقة الممتدة من الكويرة إلى بوجدور بأكملها، لكنها لم تستطع التحكم فيها سوى جزئيا وبطريقة متأثرة وسطحية، ولم تقم بإنشاء بعض المراكز الحضرية سوى في وقت متأخر، ولم يبدأ تدريس اللغة الإسبانية في الصحراء فعليا إلا في عام 1936 فقط، وقد تم إعداد أول خريطة علمية لهذه المنطقة في الفترة 1943-1949، لذلك لا يمكن الحديث عن اكتمال الاحتلال أو عن احتلال فعلي سوى انطلاقا من هذا التاريخ، وقبل ذلك، لم يستوف الاحتلال الإسباني معيار الفعالية المنصوص عليه في الوثيقة الختامية لمؤتمر برلين.. ففي الواقع، لم يتمكن من فرض سلطته والتغلب على مقاومة القبائل المتشبثة بوفائها للبيعة للسلطان، بحيث كان السلطان يمارس سيادته في إطار اللامركزية مناسبة تماما لظروف تلك الحقبة (مؤسسة نائب السلطان، ممثل السلطان، أو نائب الملك، والقياد، وبيعة شيوخ القبائل…).
وفي تناقض صارخ، ادعت إسبانيا أن “المنطقة كانت إسبانية منذ عام 1884″، بينما أجرت منذ سنة 1886 مفاوضات مع فرنسا لتحديد مناطق نفوذ كل منهما في غرب إفريقيا، بما في ذلك هذه المنطقة، حيث لم تبرم فرنسا وإسبانيا اتفاقية إضافية لتحديد المناطق المذكورة سوى في عام 1920، بهدف تحديد الحدود الشمالية للصحراء عند خط العرض 50.27 درجة.
الاسترجاع التدريجي للصحراء المغربية
بدأت المملكة المغربية الخطوات الأولى في استرجاع السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية منذ فجر الاستقلال، حيث ألقى السلطان محمد الخامس في 25 فبراير 1958، خطابا بحضور ممثلي قبائل الصحراء المغربية الذين جددوا البيعة والولاء للسلطان، أكد فيه ((إننا سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لاسترجاع صحرائنا وكل ما هو ثابت لمملكتنا بحكم التاريخ وإرادة السكان))، وفي الوقت نفسه، واصلت الحكومة المغربية معركتها الدبلوماسية داخل أروقة الأمم المتحدة وعملت مع السكان الصحراويين على تحقيق هذه العودة.
وأمام المطالب المغربية والضغوط الدولية، أعلن السفير الإسباني لدى الأمم المتحدة في عام 1960، أن حكومة بلاده قررت إحالة معلومات إلى الأمين العام، متعلقة بـ”أقاليم غير متمتعة بالحكم الذاتي” على النحو المطلوب في الفصل الحادي عشر من الميثاق الأممي، وقد أدى هذا الأمر سنة 1963 إلى إدراج ما كانوا يسمونها “الصحراء الإسبانية” في قائمة الأمم المتحدة للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، مما دفع بالمملكة المغربية إلى تقديم تحفظات على مبدأ عدم المساس بالحدود الاستعمارية، المنصوص عليه في النظام الأساسي لمنظمة الوحدة الإفريقية الحديثة النشأة، ولم تكن هذه التحفظات موجهة للدول “الوريثة” المستفيدة مباشرة من الأقاليم المعنية، بل كانت موجهة أيضا إلى إسبانيا التي كانت ترفض إرجاع سيدي إفني والساقية الحمراء ووادي الذهب إلى المغرب.
وفي ستينات القرن الماضي، رحب المغرب بجميع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تدعو إسبانيا إلى إنهاء استعمار الصحراء، نظرا لاقتناعه بأنه سيسترجع جميع الأراضي المتبقية تحت الاستعمار الإسباني من خلال التفاوض، وأنه في حالة استشارة السكان المعنيين، فإن هؤلاء سيصوتون بالتأكيد لصالح الاندماج في وطنهم الأم، ولم يكن تجديد البيعة والولاء للسلطان محمد الخامس عام 1958 الوحيد على ذلك، بل تشهد عليه أيضا انتفاضات السكان ضد الاحتلال وهتافاتهم بمغربيتهم.
وفي سنة 1968، قبل خمس سنوات من تأسيس جبهة البوليساريو، قام المغرب بدعم إنشاء حركة تحرير الساقية الحمراء وادي الذهب بقيادة سيدي إبراهيم بصيري، كما دعم مظاهرات 17 يونيو 1970 التي قام هذا الأخير بتنسيقها، وبعد عدة مفاوضات، أرجعت إسبانيا سيدي إفني للمملكة المغربية وفق “معاهدة فاس” في 4 يناير 1969، لكنها رفضت التنازل عن الصحراء مدعية أنها لا تنتمي إلى المغرب، قبل أن تفشل في جعل الإقليم أرضا إسبانية من خلال استفتاء لم يتم تنظيمه.
استرجاع المغرب للصحراء بالقانون الدولي
واصل المغرب جهوده على الصعيد الدولي والأممي من أجل استرجاع الصحراء من إسبانيا، بدعم من الدول الأخرى، التي دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974، إلى طلب رأسي استشاري من محكمة العدل الدولية بخصوص القضية، وبتاريخ 16 أكتوبر 1975، أصدرت المحكمة حكمها وأقرت بوجود روابط ولاء قانونية بين قبائل الصحراء وسلطان المغرب عبر البيعة.
فقد تم الاعتراف بالروابط القانونية والتاريخية للبيعة التي طالما جمعت القبائل الصحراوية بسلاطين المغرب من قبل محكمة العدل الدولية، وينطبق الأمر نفسه على النقاش المطروح حول جانب السيادة المرتبط بالبيعة، التي طالما كانت أساس الدولة المغربية وحيثما تواجد السكان المرتبطون بها كانت السيادة قائمة.
وقد ارتأت المملكة أن من حقها استرجاع صحرائها من خلال تنظيم المسيرة الخضراء السلمية، التي تمت في 6 نونبر 1975، وأبرمت كل من إسبانيا وموريتانيا في 14 نونبر “اتفاقية مدريد” بعنوان “إعلان المبادئ حول الصحراء”، الذي حدد شروط انسحاب إسبانيا وتقسيم الإقليم بين البلدين الجارين، وتم تسجيل الإعلان بتاريخ 9 دجنبر 1975 ونشر في مصنف معاهدات الأمم المتحدة، وفي 26 فبراير 1976، أبلغ المندوب الدائم لإسبانيا لدى الأمم المتحدة الأمين العام للهيئة، بأن الحكومة الإسبانية تنهي بصورة حاسمة وجودها في الصحراء، وأنها تعتبر نفسها في حل من كل مسؤولية ذات طبيعة دولية، ويدحض هذا البيان ادعاءات معارضي الوحدة الترابية للمغرب ممن يزعمون أن إسبانيا لا تزال الدولة المسؤولة عن إدارة الصحراء.
وبفضل الجهود الدبلوماسية المغربية، وتحت رعاية الملك محمد السادس، أدركت دول كثيرة في العالم، حقيقة تحديات قضية الصحراء المغربية ومشروعية الموقف المغربي، وقد أدى ذلك إلى قيام عدة دول بافتتاح تمثيليات قنصلية لها في الأقاليم الجنوبية للمملكة، في شهادة منها على دعمها لمغربية الصحراء.
إعداد: خالد الغازي