عزالدين السريفي، رئيس التحرير والاعداد
الصورة كانت أخاذة من شوارع أبو ظبي. موكب مَهيب تخترق فيه سيارة بيضاء فارهة جنبات طريق باذخ اصطف فيها الخيالة بخيلاء باتجاه القصر الأميري، قلب الحكم في الإمارات. شيء طبيعي لأن الضيف غير عادي. إنه الملك محمد السادس ملك المغرب الذي يحل ضيفا على حاكم الإمارات الشيخ محمد بن زايد.
القصة أكبر من علاقة دولتين شقيقتين. لنعد إلى الوراء قليلا لنفهم ما جرى هذا الأسبوع. لقد نسج الشيخ المؤسس زايد بن سلطان آل نهيان علاقات أسرية بما في الكلمة من معنى مع الراحل الحسن الثاني، لدرجة أن نسج المخيال العام نكتة مفادها أن الشيخ زايد رحمه الله كان يقوم بين الفينة والأخرى بزيارة رسمية للإمارات ويعود لبلده المغرب. نكتة ليست «حامضة» لأنها تعكس روابط خاصة جدا جمعت مملكتين بعيدتين جغرافيا بما يناهز الثمانين ألف كيلومتر، وقريبتين وجدانيا وعاطفيا بأقل من بضعة أمتار.
وقصة وريثي الحكم لا تقل ثقلا عن قصة الوالدين. فالشيخ زايد بن سلطان رحمه الله لما رأى صرامة المدرسة المولوية التي كان يدرس بها ولي العهد آنذاك سيدي محمد، عزم على أن يسفر ابنه محمد إليها سنة 1975، وهكذا جعل القدر من حاكمين حاليين أصدقاء دراسة وطفولة بالأمس.
وللمزيد من الصرامة، أعطى الشيخ زايد ابنه جواز سفر بدون اسم عائلته الحاكمة، وقد اشتغل محمد بن زايد في هذه الفترة نادلا بمقهى بالرباط، بموازاة دراسته، كما أوردت ذلك جريدة «جون أفريك» الفرنسية.
السياسة الدولية هي الدفاع عن المصالح المشروعة، ولكن العلاقات الشخصية لها تأثير حاسم في مردودية العلاقات السياسية. ولعل ما رأيناه بداية هذا الأسبوع من اتفاقيات اقتصادية غير مسبوقة لم يكن يتأتى لو لم تنضجه السياسة والتربة الشخصية الخصبة
لقد عرفت العلاقات المغربية الإماراتية مرحلة جفاء طويلة، صحيح لم يسبق أن صدرت بلاغات رسمية في هذا الشأن، ولكن كل شيء كان محسوسا وملموسا وأسال الكثير من المداد، وقد جرى هذا في خضم الحرب على اليمن والأزمة القطرية الإماراتية السعودية، التي فضل فيها المغرب الحياد، ولكن بالخصوص حول الموقف من الإسلاميين بين التعامل الديموقراطي بالمملكة المغربية والرأي الاستئصالي، إضافة إلى بعض الاستثمارات الإماراتية التي رأى فيها المغرب مضايقة له من مثل ميناء نواديبو أو على الأقل هذا ما استنتجته الصحافة آنذاك.
وبما أنه ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة في العلاقات الدولية، فإن هذه القاعدة، عندما انقشعت سحب الجفاء، عادت بأبوظبي والرباط إلى جذور الشجرة التي تتجاوز السياسة لتصل إلى متانة الروابط الأسرية. ولهذا كانت نتائج هذه العودة المحمودة مبهرة.
وعمليات توثيق اللقاءات والمنتديات والندوات من خلال التقاط صور أو تخصيص حيز زمني لتصريحات ومؤتمرات صحفية.. ليست بـ”ترف سياسي”، بل هي عنصر هام ضمن عمليات التواصل السياسي مع الرأي العام، وخلفية كبيرة تساعد على قراءات مختلفة باختلاف زوايا قارئها..
لذلك، ونحن نقرأ مختلف صور اللقاء الأخوي ليوم 4 دجنبر 2023 بين الملك محمد السادس وأخيه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بالقصر الرئاسي “قصر الوطن” حيث لا تغيب لمسات الصانع التقليدي المغربي وبصماته في الجدران والأقواس والزخرفة والبلاط والنقش.. ونحن نقرأ تلك الصور، نقف عند تفاصيل دقيقة تخص استقبال الشيخ رئيس الدولة والشعب الإماراتي لضيف غير عادي، يحمل معه شريط أحداث تاريخية مشرقة تجمع الدولتين، ومواقف سياسية ثابتة لا تتأثر بسحابات صيف عابرة لأنها بحق علاقة راسخة.
ولأن الصور تحتاج عادة إلى تعليق وإلى عنوان.. فقد جاء عنوان اللقاء “شراكة مبتكرة ومتجددة وراسخة…” عميقا يختزل دفء الأحضان وصدق المودة وصفاء النوايا في توقيع انتقال جديد إلى مستوى أرحب بتلك العلاقات الأخوية من خلال آليات مبتكرة ومشاريع متجددة تخدم مصالح الشعبين وتزيد العلاقات ترسيخا وصلابة لا تصدأ مع الزمن ومضادة لكل عناصر دخيلة.
على أنه لا يمكننا إغفال قراءة صورة تجمع بين فريقي عمل الدولتين ويتقدمها قائدا الشعبين.. فبعيدا عن جمالية الصورة، تخطفنا دلالات الوفد المغربي من حيث عدد أفراده وتنوع تمثيله بين مؤسسات الحكومة وقطاعات صناعية وإعلامية واستراتيجية مهمة، وهي رسالة أخرى حول آفاق الشراكات الاستراتيجية والجيل الجديد من الشراكات المغربية الإماراتية.
لذلك، فحرارة الاستقبال وقوة حضور الوفدين المغربي والإماراتي وما رافق ذلك من توقيع مذكرات تفاهم تخص قطاعات استراتيجية مهمة تؤمن الأمن المائي والطاقي والغذائي، والبنية التحتية، وتوفر فرص عمل عديدة.. هي تعبير حقيقي عن واقع العلاقات بين البلدين، إذ كان لا بد لهما من نقلة جديدة تتماهى مع مخاضات العلاقات الدولية والسباق نحو خلق تحالفات سياسية واقتصادية، واختيار المغرب للإمارات لتوقيع العبور معا في ظل ساحات مشتعلة، سواء بأوكرانيا أو في قطاع غزة / فلسطين، وفي ظل صراعات دولية، سواء بين دول “الناتو” وروسيا، أو بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وأزمات المحيط الهادئ، وانقلابات إفريقيا، وتهديد فنزويلا مادورو بضم منطقة إيسكيبو (Esquibo) التابعة لغويانا، وهي الغنية بالبترول والغاز، مما يجعل أمريكا اللاتينية على شفا حرب… وفي ظل تغييرات مناخية قوية، وتداعيات “كورونا”، ومخلفات الربيع العربي بكل من ليبيا وتونس وسوريا واليمن ومصر، ودول حوض المتوسط، من هجرات وتهجير جماعي نحو أوروبا.
في ظل كل هذا، فإن اختيار المغرب لدولة الإمارات كأحد الشركاء السياسيين والاقتصاديين للمرحلة الجديدة، ليس بحادث فجائي، بل هو امتداد لعلاقات تاريخية ولمواقف سياسية، ويتوافق مع إحداثيات أعلن عنها ملك المغرب في أكثر من خطاب، ويكفي التذكير بأن الإمارات شاركت في المسيرة الخضراء سنة 1975، وكانت أول دولة عربية تفتح قنصلية بالعيون سنة 2020، وحضرت ضمن أربعة دول في عمليات الإغاثة والإنقاذ في زلزال الحوز سنة 2023..
هذا دون الحديث عن حجم الاستثمارات الإماراتية في الاقتصاد والسوق المالية المغربية، فكان ضروريا ضخ دماء جديدة في تلك العلاقات الراسخة تاريخيا بشراكات جديدة ومبتكرة، وتتماهى مع الإحداثـيات المغربية الجديدة، سواء على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أو على المستوى المتوسطي والفضاء الأوروبي، أو على المستوى الأطلسي والفضاء الأمريكي…
وقد لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء بربط ما جاء في خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2023 مع مضمون مذكرات التفاهم في لقاء الإمارات ليوم 4 دجنبر، سواء المتعلقة بالتجهيز واللوجستيك والموانئ (الناظور والداخلة)، والأسطول البحري التجاري التنافسي، أو الواجهة الأطلسية، وتجمع 23 دولة، أو مشاريع تحلية الماء وتدبير الندرة، أو أنبوب الغاز المغربي – النيجيري، ومشاريع التنمية المستدامة وخلق فرص العمل بما فيها المناطق الصحراوية المغربية.
كما أن ذات الاختيار لم يكن مجاملة لبلد شقيق، بل إن الامارات تتوفر على أجندة اقتصادية قوية على مستوى الامتداد الخارجي، ومن ضمنها إفريقيا، إذ تعد رابع مستثمر خارجي بعد كل من الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، كما وصل رقم استثماراتها إلى 60 مليار دولار في مجالات البنية التحتية والقطارات والموانئ والطاقة النظيفة بإفريقيا، وقد وقعت في شهـر شتنبر الماضي بالعاصمة نيروبي على مبلغ 4.5 مليار دولار لتمويل مشاريع الطاقة النظيفة بإفريقيا، وذلك قُبيل اجتماع دورة “الكوب 28” بالإمارات في نونبر- دجنبر 2023، كما قامت شركات الإمارات وصناديقها الاستثمارية، بتوقيع شراكات لتحديث البنى التحتية وموانئ العديد من الدول الإفريقية، مثل جيبوتي وتنزانيا والموزمبيق ومصر وأنغولا والسنغال، وهي شراكات جعلت بعض المهتمين بالشؤون الإفريقية يعتقدون بوجود صراع ثنائي صيني – إمـاراتي حول الموانئ الإفريقية.
لذلك، فإشارة الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات – في البيان المشترك لزيارة الأخوة والعمل للملك محمد السادس يوم 4 دجنبر – إلى أن المغرب يقدم فرصا وإمكانات في مجال الاستثمار كبيرة، ومؤهلات متنوعة مدعومة بتوفير مناخ محفز للأعمال، فضلا عن الأمن والاستقرار، مما يجعله وجهة جذابة للاستثمار، هي رسالة واضحة لكل الشركاء الاقتصاديين الذين يتقاسمون مع المغرب رصيده السياسي والتاريخي، ودفاعه عن الوحدة الوطنية والترابية.
لكل هذا، فإننا نفتخر بشراكات المغرب مع دولة الإمارات العربية المتحدة والدفع بها إلى السرعة القصوى تحت عنوان: “شراكة مبتكرة ومتجددة وراسخة”.
أحلام المملكة المغربية كبيرة، ولكن إمكانياتها محدودة، ولو تظافرت جهود الدول العربية الطموحة مع الدول العربية الثرية لكان هناك عالم عربي آخر. نحن اليوم منشغلون بقضايا للإلهاء مثل القضايا الهوياتية، وبعض النعرات العرقية، ومنها اعتبار العروبة إقصاء وربما شرا، وهذا جعلنا في هذا العالم العربي مثل الجُزر، فالناس يبحثون عن روابط مهما صغرت فإنها تحملنا كجسور، والبعض يبحث عن تهديم إرث حضاري يعاني اليوم، ولكن علاج معاناة التشرذم العربي لا يكون بهدم هذا الانتماء بل بالمساهمة في ترميم جدرانه.
لنتصور لو لم تكن قد زرعت في أقدامنا بالمغرب الكبير شوكة القضية الصحراوية المفتعلة، وجرى التعاون التكاملي مع الأشقاء في الجزائر، وظلت ليبيا دولة قوية وتونس خضراء فعلا وموريتانيا بعيدة عن الاستقطابات. ألن يكون هذا التجمع أول شريك قوي لمجلس التعاون الخليجي، ومعه وبه ألن نكون شركاء ندا للند مع الاتحاد الأوربي؟ وهل كانت الولايات المتحدة الأمريكية ستتعامل معنا بهذه الصلافة؟ وهل كنا أصلا سنحتاج لاتفاقيات أبراهام أو للتطبيع؟ أبدا، لأننا سياسيا كنا سنكون ساعدا مشدودا لإخواننا في فلسطين الذين يذبحون يوميّا في غزة ونحن نجر التشرذم وبلاغات التنديد وألم قلة الحيلة.
واسمحوا لي أن أتبنى نظرية المؤامرة وأقول إنه منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية والعالم العربي مستهدف، مزقوه واستعمروه وزرعوا في قلبه دولة إسرائيل، وزادوا على ذلك بسياسة فرق تسد، كلهم فعلوا ويفعلون، كل الدول الاستعمارية وراعيتها أمريكا التي جعلت من إسرائيل وكيلا لها لحماية الثروة النفطية. ومنذ ذلك الزمن الغابر إلى الآن، ورغم الاستقلالات، بقيت آلة الهدم تحصد إلى أن مزقت المغرب الكبير، وانهارت الدولة في ليبيا وسوريا واليمن، وتكاد في لبنان والسودان، وضمُر وهج مصر ودخل التصدع إلى البيت الخليجي وطغت إسرائيل وتجبرت، وكدنا ننسى فلسطين لولا المقاومة. ولكن لما عدنا إلى القضية العربية الجامعة، ها نحن نرى أن الأثمان المدفوعة باهظة، جدا جدا! ولكن لحمة الوجدان كانت في الموعد، فهل يمكن فصل التنمية والرفاه في هذا العالم العربي عن معالجة هذا الظلم التاريخي في الشرق الأوسط؟
سيحاربون الفلسطينيين وسيدكون غزّة ونحن لم يبق عندنا شيء في مخزون الألم! وإذا نجحوا، فالدور علينا، على الأردن ولبنان وسوريا ومصر، إلى السعودية إلى المغرب. سيحاربوننا جميعا ويشعلون الفتن، ويفرقون ويتآمرون، فعالم عربي موحد وقوي خطر على الولايات المتحدة الأمريكية لأنه خطر على إسرائيل، لأن ترتيب نظام عالمي جديد يهدد الغرب، وكل نقطة ضوء من مثل ما جرى هذا الأسبوع بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية هو تهديد لهؤلاء المتربصين بالعالم، فأن يساهم فاعل خليجي وازن في أن يتقوى شريك مثل المغرب كلاعب إفريقي كبير، هو خطر على مصالح الاستعمار الجديد.