رئيس التحرير
إن الحقيقة البادية للعيان أن المغرب يلعب على المستوى الدولي بشكل أفضل بكثير من لعبه على صعيد الملفات الداخلية، وقد عرفت البلاد أزمة غير مسبوقة في التعليم نظرا لأخطاء حكومية قاتلة، وظل أكثر من 7 ملايين تلميذ بدون دراسة لمدة ثلاثة أشهر بسبب إضرابات كان لها أساس شرعي، وهو إصدار نظام أساسي لرجال التعليم ربما هو الأسوأ في التاريخ. ارتبكت الحكومة غير السياسية، دون أن تستطيع حل المشكل، ولولا هذا التسونامي لرجال التعليم في المغرب لما تراجعت حكومة رقعت نصوصا تشريعية ومراسيم في عدد من المجالات ما تزال آثارها الكارثية بادية، ومنها المحاماة والصحافة والصيدلة، وقد تصادمت حتى مع حلفائها الطبيعيين فتواجه رئيس الحكومة مع رئيس الباطرونا في المغرب، والبقية تأتي.
أكاد أقول إنها واحدة من أسوأ السنوات التي نستعد لطيها، ولكن تمنعني من ذلك همم الرجال، وبطولات مواجهة الأهوال، وأولئك الذين عرفوا كيف يحولون أكبر الأزمات إلى أكبر الفرص، والصابرون دون تواكل، والذين يزغردون قبل أن يدفنوا الشهداء، وأولئك الذين يمنحون محيطهم جرعات من الأمل كلما خيم اليأس وادلهمت الأمور، فلنقل إنها سنة صعبة، ولكنها سنة ضمن 2023 سنة بعد ميلاد المسيح عليه السلام، وقبلها 2000 أو ما يزيد أخرى علمنا فيها التاريخ أن الحضارة لم تنهض إلا على أنقاض المعاناة والتضحيات.
وحتى إن كان الناس يحتفلون بقدوم سنة جديدة مهما كانت سابقتها، فهذه سنة يصعب الاحتفال فيها وبها حقا نظرا لما يجري في غزة الأبية. هذه أول مرة في التاريخ الحديث تشن أمام كاميرات العالم حرب إبادة حقيقية لما يناهز المليونين ونصف مليون مواطن فلسطيني في رقعة جغرافية لا تتجاوز 360 كلم مربع، صبّ عليها الجيش الاسرائيلي، الذي يعد خامس أعتى جيش في العالم، ما يعادل خمس قنابل ذرية، وخلفت لحد الآن ما يطل على 100 ألف ضحية ما بين شهيد وجريح أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
من أجل هؤلاء الضحايا، وأولئك الذين ما زالوا صامدين تحت القصف، نخجل من الاحتفال، حتى ولو كانت المقاومة قد حققت شيئا غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. الخسارة فادحة والإنجاز ضخم. هذا الذي جرى في 7 أكتوبر وما بعدها عندما بدأت الاشتباكات الميدانية، فخر للأمة. مجموعة من الشباب الذين يقاتلون بأسلحة بدائية مقارنة مع ترسانة العدو ومظلته الأمريكية، استطاعوا هزم «الجيش الذي لا يقهر» وهم بلا غطاء جوي ولا إسناد بحري ولا دبابات. إنها الإرادة الحديدية للانعتاق من ربقة الاحتلال.
الثمن كبير، ولكن هل حاز شعب محتل حريته دون أن يؤدي الثمن؟ ملايين الشهداء في العالم العربي وحده كانوا ثمنا للتحرر، فكيف بشعب كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصفوا قضيته، حتى أن أكثر المتفائلين لم يكن يتصور أن يستمر ذكر القضية الفلسطينية بعد عام أو عامين. وها هم قد أعادوها إلى الصف الأول في الأجندة الدولية، وأحيوا الأمل في وجدان مليارين من المسلمين، وخلطوا أوراق الشرق الأوسط، وزلزلوا الدولة الصهيونية لأول مرة منذ 1948 بعدما كنا نؤرخ لهذا الصراع بالنكسات والنكبات والمجازر، حتى كادت سنة 2023 أن تكون سنة الاستسلام، ولكن الباطل كان زهوقا!
وإذا كان الغرب قد اصطف بلا شروط مع المجزرة في غزة وبارك الإبادة الجماعية واضعا قيمه الكونية على المحك، فإن الشعوب قد عبرت عن اصطفافها مع الحق حتى في دول هذا الغرب، وخرجت المسيرات في العواصم الدولية والإسلامية والعربية، واهتزت المدن دون أن تهتز الأنظمة بمواقف أقوى من مجرد التنديد والإدانة.
وفي المغرب الذي يجعل القضية الفلسطينية في مصاف القضية الوطنية، عاد الشارع ليذكر محبي إسرائيل بعروته الوثقى مع القضية الفلسطينية، وتكاد تكون العلاقات بين الرباط وتل أبيب قد جمّدت عمليا في انتظار أن يتم فسخ هذا التطبيع الذي لا يليق مع حكومة يمينة متطرفة، مكانها الطبيعي اليوم هو محكمة الجنايات الدولية.
إن الذي يحمي الوحدة الترابية للمملكة المغربية هو العرش والشعب وقواتنا المسلحة الملكية، الدولة تقوم بدورها ليكون لنا مكان يليق بتاريخنا في المنتظم الدولي، وتدافع عن مصالحنا، ولكننا أبدا لن نساوم على قضايانا المصيرية.
في هذه السنة الصعبة، ظل المغرب يلعب بأناقة على المستوى الدولي، ولم تتراكم في قضية الصحراء إلا المكاسب، فصوّت مجلس الأمن على قرار يؤكد على خيار الحكم الذاتي، وزاد التقارب المغربي الإسباني خصوصا بعد تأكيد تنظيمنا المشترك لكأس العالم 2030 مع البرتغال، ولن تغرب شمس هذه السنة حتى تكون العلاقات مع فرنسا قد عادت إلى دفئها. ويبقى التوازن هو سمة الدبلوماسية الملكية فلم نقطع شعرة معاوية مع روسيا رغم الحرب الأوكرانية، وحافظ المغرب على موقعه في الملعب الإفريقي مع محاولة خلق تكتل غربي مع الساحل لتعزيز البعد الأطلسي للمملكة.
وقد كانت الشراكة المغربية الإماراتية التي ستمول تقريبا جل المشاريع الاستراتيجية للمملكة، من ميناء الناظور إلى ميناء الداخلة إلى مدّ القطار السريع إلى مراكش وغير هذا كثير، من أبرز ما تحقق في 2023 ومن أقوى الركائز التي تساعد على تمويل أحلام بلد بإمكانيات محدودة وطموحات بلا حدود.
لقد كان زلزال الحوز ببؤرته في إيغيل فاجعة وطنية بكل المقاييس خلفت 2900 قتيل و 5500 جريح في ستة أقاليم هزت المغرب، وهزت أفئدة المغاربة الذين عوضوا فداحة الخسائر في الأرواح والبنيان بتضامن وطني غير مسبوق، كفكف الدموع وخفف قليلا من لوعة الفقد وهول الرزء. وقد كانت القرارات الرسمية المتخذة لما بعد الفاجعة مضبوطة ومعقولة بخصوص التعويض وإعادة الإعمار، ولكن دائما نعود إلى مشكلة التنزيل السليم للقرارات الصائبة، وهذه في حد ذاتها كارثة وطنية تتكرر بشكل دوري.
إن الحقيقة البادية للعيان أن المغرب يلعب على المستوى الدولي بشكل أفضل بكثير من لعبه على صعيد الملفات الداخلية، وقد عرفت البلاد أزمة غير مسبوقة في التعليم نظرا لأخطاء حكومية قاتلة، وظل أكثر من 7 ملايين تلميذ بدون دراسة لمدة ثلاثة أشهر بسبب إضرابات كان لها أساس شرعي، وهو إصدار نظام أساسي لرجال التعليم ربما هو الأسوأ في التاريخ. ارتبكت الحكومة غير السياسية، دون أن تستطيع حل المشكل، ولولا هذا التسونامي لرجال التعليم في المغرب لما تراجعت حكومة رقعت نصوصا تشريعية ومراسيم في عدد من المجالات ما تزال آثارها الكارثية بادية، ومنها المحاماة والصحافة والصيدلة، وقد تصادمت حتى مع حلفائها الطبيعيين فتواجه رئيس الحكومة مع رئيس الباطرونا في المغرب، والبقية تأتي.
وإذا كانت نقطة قوة برنامج الدولة هي الملف الاجتماعي بما فيه من تعميم للتغطية الصحية والدعم المباشر، فإن أم القضايا في هذه الدولة الاجتماعية المأمولة هي آفة التنزيل وغموض مصادر التمويل. وعموما، سواء في كورونا السيئة الذكر أو في الزلزال، يبين لنا الواقع أن الخصاص في البلاد مهول، وأن الفقر ضارب أطنابه، وأن العلاج صعب جدا، والسبب هو الثروة المنهوبة والفوارق والفساد الذي شرحت حجمه الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية ومحاربة الفساد، وهي مؤسسة دستورية.
قد يبدو ملف ما يعرف بـ «إسكوبار الصحراء» الذي جر معه في دائرة الاتهام شخصيتين سياسيتين بارزتين قضية معزولة، ولكن ما خفي قد يكون أعظم ! إننا أمام مؤشر دال على نخب جديدة نبتت في الظل واتخذت من السياسة ملجأ للحماية وبالتالي، بدل أن يكون الخوف القديم هو من تغلغل إيديولوجية معينة في مفاصل الدولة، فإن الخوف الجديد هو تغلغل الفاسدين في دواليب المؤسسات والإجهاز على المكتسبات وأخذ المغرب كرهينة لمصالح مافيوزية وترك الشعب يواجه المجهول. ولكن الحمد لله أن للبيت ربا يحميه.