كانت رحلة الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ ولد الغزواني خلال الأيام الماضية إلى الجزائر تمر في ظروف يغلب عليها طابع الصراع بين المغرب والجزائر في موريتانيا، وكان من شأن حدث تدشين منطقة حرة بين الجزائر وموريتانيا أن يعتبر في إطار المنافسة الاقتصادية بين المغرب والجزائر بموريتانيا، لولا أن واقعة حدثت وطرحت أكثر من علامة استفهام، ويتعلق الأمر بمقتل الحارس الشخصي للرئيس الموريتاني، في تندوف، في حادث غامض، قد يفهم منه أنه رسالة سياسية شديدة اللهجة إلى الجارة الجنوبية، وارتباطا بذلك، نقترح على قرائنا هذا الملف الذي يفتح تاريخا من التدخل والدعم الجزائري للانقلابات في موريتانيا منذ سنة 1978 إلى 2008.
رائحة التدخل الجزائري في الانقلاب الموريتاني الأول سنة 1978
حصلت موريتانيا على استقلالها من الاحتلال الفرنسي يوم 28 نونبر 1960، وعاشت 18 سنة في ظل حكومة مدنية يرأسها المختار ولد داداه، ثم بدأت معاناة البلاد منذ نشوب النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، حيث وجدت نفسها في قلب الصراع، وتحالفت مع المغرب من أجل مواجهة جبهة البوليساريو، ومنذ ذلك التاريخ وجدت الجارة الجنوبية نفسها في مواجهة مباشرة مع ضربات جبهة البوليساريو.. عندها بدأ الشعور داخل أجنحة فاعلة في المؤسسة العسكرية، يقول بأن الوقت قد حان لوضع حد لهذه الحرب التي تبدو في الأفق بلا نهاية، فقرر العقيد المصطفى ولد السالك، بلورة هذا الغضب في تحرك عسكري، وكان صباح يوم 10 يوليوز 1978 هو نهاية سنوات حكم المختار ولد داداه، الذي كان يعتبر حليفا للمغرب، وبداية حكم العسكر في البلاد، وهذا الانقلاب الأول لم تعرف الجهة الداعمة له لحد الآن، هل هي الجزائر أم فرنسا، أم جهات أخرى، مع العلم أن هناك إشارات تقول بصريح العبارة أن الجزائر هي من كانت تقف وراءه.
ففور وقوع الانقلاب، صرح الملك الحسن الثاني غير ما مرة، بأن العلاقات بين البلدين ستصبح أفضل بعد هذا التحول المفاجئ في الجارة الجنوبية، وقد قام حاكم موريتانيا الجديد بخطوات أوحت بأن بلاده سوف تبقى على حياد عندما قام بزيارة للمغرب، حيث صرح بأنه عاقد العزم إلى جانب الملك المغربي، على إزالة التوتر وإعادة السلام والهدوء إلى المنطقة على أساس الاحترام المتبادل للسيادة والوحدة الترابية لبلديهما.
وبالتزامن مع ذلك، أعطى وزير الداخلية الموريتاني ست جوازات سفر موريتانية غير موقعة لأعضاء البوليساريو، وتجدر الإشارة إلى أن الانقلاب جاء بالتزامن مع سعي الجزائر إلى إثارة اهتمام القادة الأفارقة بقضية الصحراء من جديد مع اقتراب قمة الخرطوم، وهو ما جعل المفكر عبد الله العروي يقول بهذا الخصوص، أن الانقلاب الأول كان مواليا تماما للبوليساريو، وأضاف: ((أقول منذ أيام إن الجزائر تحضر شيئا ما لإرغام الزعماء الأفارقة لدى اجتماعهم في الخرطوم، على الاهتمام من جديد بمسألة الصحراء. اليوم والمغرب غارق منذ خمسة أيام في الأفراح، يأتي انقلاب عسكري في نواكشوط.. هذا ما كان يحلم به بومدين منذ سنة 1975، دور جزائري، كي يتم ذلك والجيش المغربي مرابط في موريتانيا.. دور فرنسا لإبعاد المغرب وفتح مفاوضات مع الجزائر؟
على أي، هذه ضربة موجهة للمغرب، الذي أظهر المرة تلو الأخرى أنه عاجز عن أخذ المبادرة، والآن يعطي الدليل على أنه عاجز حتى عن حماية حلفائه)).
وفي ذات السياق، وصف المفكر عبد الله العروي توجه السياسة الخارجية لموريتانيا بالتالي: ((لا يهم ما يقوله اليوم زعماء موريتانيا الجدد، المهم هو ما بدأ يترتب عن الانقلاب، من المستفيد؟ أولا فرنسا ثم الجزائر ثم ليبيا.. هذا واضح من تعاليق الصحف الفرنسية الموالية للجزائر، ويقول أحد المحللين: جاء الانقلاب لفك عقدة مستعصية، يمكن الآن لفرنسا أن تلعب دورها بإرغام المغرب على التفاوض. ما كان محتملا سنة 1975 أصبح حقيقة، وعلى المغرب أن يختار بين قبول حياد موريتانيا – أي فسخ اتفاقية 1976 ـ وبين العمل على تقسيم موريتانيا نفسها))، غير أن حكم الرجل لم يدم إلا عشرة أشهر فقط، ثم أجبر على الاستقالة من السلطة في شهر أبريل من العام 1979.
هكذا تم اغتيال العقيد الموالي للمغرب أحمد ولد بوسيف في سنة 1979
كان من نفذ الانقلاب على العقيد المصطفى ولد السالك هو العقيد أحمد ولد بوسيف، يوم 6 أبريل 1979، وبدأ الحديث عن تقوية التحالف المغربي الموريتاني، وتجلى ذلك في كون ولد بوسيف كان قد طالب إسبانيا وفرنسا بتزويده بالسلاح كما لو كان ينوي استئناف القتال أو على الأقل الاستعداد لمواجهة تهديدات الجزائر.
لقد نفذ هذا الانقلاب في ظل الحديث عن استعداد موريتانيا لمغادرة الصحراء، مع رغبة الجزائر في أن يتم منح إقليم الداخلة وادي الذهب للبوليساريو، وكتب عبد الله العروي معلقا على الوضع الجديد ما يلي: ((رغم كل هذا الشائع، فهناك أمور خطيرة تتهيأ في موريتانيا: وزير الداخلية الجديد، رغم ثنائه على المغرب وجيشه، أكد من جديد أن قرارات الأمم المتحدة تخول للبلدين مهمة إدارة شؤون الإقليم حتى تسمح الظروف باستفتاء السكان.. إن موريتانيا تستعد دائما لمغادرة الصحراء والخروج من الحرب، لكن هذه المرة بموافقة المغرب، في الوقت نفسه، علم أن وفدا جزائريا توقف يوم 24 أبريل في نواكشوط، وهو في طريقه إلى باماكو، كما أن وفدا موريتانيا سيحل بالجزائر أياما قليلة قبل زيارة الوزير الأول الإسباني)).
ويبدو أن كلا من المغرب والجزائر كانوا على علم بأن موريتانيا لم تعد تتحمل أعباء الحرب مع البوليساريو، وأن رغبتها الأولى هي الانسحاب من الداخلة ووادي الذهب، بينما كان المغرب يرغب في أن تتفاهم موريتانيا معه من أجل منحه هذه القطعة من الأرض، بينما كانت رغبة الجزائر أن تتفاهم موريتانيا معها من أجل منحها للبوليساريو.
ويبدو أن هذا هو السبب الوجيه الذي أدى إلى الانقلاب على الرئيس الجديد العقيد أحمد ولد بوسيف، الذي مات في ظروف غامضة بعد شهر فقط من توليه السلطة، عندما سقطت الطائرة التي كانت تقله إلى العاصمة السنغالية دكار، وما زال لغز موته محيرا إلى الآن، حيث علق عبد الله العروي على اغتيال هذا الأخير بالقول: ((اجتمع مجلس الأمن القومي في جو قاتم، وأخبر أن الجزائر نجحت في فصلنا من جديد عن إفريقيا، يعني أنها تمركزت بقوة في موريتانيا وأن النظام الذي تلا موت (اغتيال؟) أحمد ولد بوسيف، مجهول الاتجاه)).
ولد أحمد الولي.. رجل الجزائر الذي وقع على منح إقليم الداخلة ووادي الذهب للبوليساريو
بعد ذلك، برز على الساحة السياسية نجم محمد محمود ولد أحمد الولي، الذي أصبح الرئيس ابتداء من 3 يونيو 1979، وكان مدعوما من طرف قصر المرادية، وفور أخذه مقاليد السلطة، ظهرت بسرعة بوادر تنصل حكام موريتانيا الجدد لالتزاماتهم مع المغرب.. فقد قرر هذا الأخير التخلي عن المعاهدة الثلاثية بينه وبين المغرب وإسبانيا، المعروفة بـ”اتفاقية مدريد” الموقعة يوم 14 نونبر 1975، وتوجه إلى الجزائر التي رعت المفاوضات بين موريتانيا وجبهة البوليساريو، وانتهت بتوقيع ما سمي بـ”اتفاقية السلام” بين موريتانيا وجبهة البوليساريو يوم 5 غشت 1979، والتي نصت على انسحاب القوات الموريتانية من إقليم وادي الذهب وتركه لميليشيات البوليساريو.
كان المغرب يراقب ما يحدث باهتمام كبير، وأمام هذا الوضع الجديد الذي فرض على أرض الواقع، كان لزاما الإقدام على خطوة سريعة ومباغتة، وهو ما قام به الحسن الثاني، حيث وجه أوامره للقوات المسلحة الملكية بالدخول إلى إقليم وادي الذهب وإفشال مخطط البوليساريو وحليفتها الجزائر، وذلك قبل أن يجف حبر الاتفاقية الموقعة بين موريتانيا وجبهة البوليساريو.. وقد انتشرت القوات المسلحة الملكية بسرعة في إقليم وادي الذهب، وقدمت قبائل المنطقة البيعة للملك الحسن الثاني، وأعلن عن استرجاع إقليم وادي الذهب، وهو ما شكل انتكاسة كبيرة للجزائر وصنيعتها البوليساريو، وبذلك لم تتمكن الجزائر ولا البوليساريو من تطويق المغرب من الجهة الجنوبية، وانتهت أول محاولة لحصار الحدود الجنوبية للمملكة.
محمد خونا ولد هيدالة.. الرئيس الموريتاني الذي اعترف بالبوليساريو
ورغم تحالفه مع الجزائر.. لم يهنأ ولد الولي بكرسي الرئاسة لأكثر من عام واحد أيضا، وكانت الغلبة في هذه الجولة للعقيد محمد خونا ولد هيدالة، الذي كانت تربطه هو الآخر بالجزائر علاقات متينة وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد ابتداء من 4 يناير 1980، وخلال مرحلة حكمه، دخلت العلاقات بين المغرب وموريتانيا في نفق مظلم.. فقد نشبت بينهما حرب إعلامية قوية تبادل الجانبان خلالها الاتهامات، وغضت موريتانيا الطرف عن مرتزقة البوليساريو، حيث سمحت لهم باستغلال أراضيها للهجوم على المغرب، غير أن الأمر لم يدم طويلا.. فقد قامت السعودية بوساطة بين البلدين، ونجحت في عقد صلح بينهما، حيث توجه رئيسا البلدين إلى مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية، يوم الأحد 28 يونيو 1981، وهناك اجتمع الملك الحسن الثاني والرئيس الموريتاني محمد خونا ولد هيدالة بمدينة الطائف تلبية لدعوة السعودية تحت إشراف الملك خالد بن عبد العزيز، وهناك تم توقيع اتفاقية الصلح.
ورغم توقيع الاتفاقية، إلا أنه لم يمر الكثير من الوقت حتى فاجأت موريتانيا المغرب من جديد، وهذه المرة كانت المفاجأة أكبر، وهي اعترافها بجبهة البوليساريو رسميا في بداية سنة 1984، خارقة بذلك “معاهدة الطائف” وضاربة بها عرض الحائط، فلم يكن أمام الملك الحسن الثاني من حل سوى إرسال رسالة إلى العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز، يوم 28 فبراير 1984، حول هذا المستجد، أخبره فيها أن المسؤولين الموريتانيين اعترفوا بالجمهورية الوهمية، ومعنى هذا أنهم أخلوا بـ”اتفاقية الطائف”، كما أنهم انحازوا إلى جانب خصوم المملكة، ولم يتأخر العاهل السعودي في الإجابة عن رسالة نظيره المغربي، حيث بعث له الجواب يوم 5 مارس 1984، كان أهم ما جاء في الرسالة: ((أخي العزيز، فيما يتعلق باعتراف موريتانيا بما يسمى الجمهورية الصحراوية، أدرك وجهة نظر جلالتكم في هذه المسألة، ولقد كان الأجدر بالموريتانيين أن يبقوا على الحياد))، وأضاف: ((لقد أرسل لنا الرئيس الموريتاني مندوبا، فلم أقابله، بل قابله سمو وزير الخارجية، الذي عهدت إليه أن يخبره بأنه كان من الأفضل لهم أن يتفاهموا مع جلالتكم قبل إعلان أي شيء من قبلهم، وأن ما عمله بلدكم الشقيق معهم، ينبغي أن يقابل بالعرفان والتقدير)).
محمد ولد عبد العزيز.. رفضته الجزائر من أجل الحفاظ على مصالحها في موريتانيا
وفي ظل هذه الصراعات.. كانت فرنسا تراقب الوضع في مستعمرتها القديمة عن كثب، وتلاحظ بدقة طبيعة الصراعات داخل المؤسسة العسكرية، وتفكر جديا في أن يكون لها دور في ما يحدث، فاختارت أن تتحلى الجولة القادمة من الصراع بنكهة فرنسية، وتحقق لها ذلك في 12 دجنبر 1984، حينما استطاع الرئيس فرانسوا ميتران، وبعد إلحاح، إقناع محمد خونا ولد هيدالة بمغادرة البلاد لحضور مؤتمر يجمع بعض زعماء إفريقيا وفرنسا في بوجمبورا عاصمة بوروندي، وما إن خرج ولد هيدالة من نواكشوط حتى أظهر غبار القلق ما كان يخفيه، وصدقت نبوءة ولد هيدالة.. فقد قاد العقيد معاوية ولد أحمد الطايع انقلابا عسكريا استولى من خلاله على الحكم في العام 1984، وبعد عقدين كاملين، عادت موريتانيا إلى أجواء الانقلابات فشهدت محاولة فاشلة قام بها العقيد صالح ولد حننا في يونيو 2003، وبعد عامين، وتحديدا في 3 غشت 2005، نجح أعلي ولد محمد فال ـ بدعم واتفاق مع المؤسسة العسكرية ـ في انقلابه ضد نظام معاوية ولد أحمد الطايع، ثم سلم السلطة إلى رئيس منتخب هو محمد ولد الشيخ عبد الله، في أبريل 2007، وفي 6 غشت 2008، وعقب قرار رئاسي بإقالة قائد أركان الحرس الرئاسي محمد ولد عبد العزيز وقائد أركان الجيش محمد ولد الغزواني، قام الاثنان على الفور بانقلاب اعتقلا خلاله الرئيس محمد ولد الشيخ عبد الله، وأصدر الانقلابيون بيانا يعلنون فيه تشكيل “مجلس الدولة”.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها الجزائر بيانا تعلن من خلاله رفضها البات للانقلاب العسكري في موريتانيا، كما ألحقته بمواقف سياسية من ضمنها عدم استقبال الرئيس بوتفليقة، على غير عادته، الوفد الموريتاني برئاسة الرجل الثاني في المجلس العسكري، الجنرال ولد الغزواني، المرفق بوزير خارجية بلاده، وبدل ذلك، تم استقبالهم في ظروف مهينة من طرف الوزير المنتدب لدى وزير الخارجية المكلف بالاتحاد الإفريقي واتحاد المغرب العربي، عبد القادر مساهل.
والإجراء العدائي الثاني الجزائري، تمثل في استقبال زعماء بعض أحزاب المعارضة للانقلاب، من طرف عبد العزيز بلخادم، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والممثل الشخصي لرئيس الجمهورية، وتم اللقاء في القصر الجمهوري، وهذا الاجتماع كان له أكثر من معنى ودلالة سياسية، أهمها، أن الجزائر بمواقفها الرافضة هذه، دخلت مباشرة على خط الأحداث السياسية الداخلية الموريتانية، التي تلت الإطاحة بالرئيس محمد ولد الشيخ عبد الله من طرف قائد الحرس الجمهوري، الجنرال ولد عبد العزيز.
عنصر آخر، قد يضاف إلى الموقف الجزائري، نذكر التحركات الدبلوماسية الجزائرية في الاتحاد الإفريقي، من خلال القيام بضغوطات سياسية على الدول الإفريقية التي تتوصل بمساعدات مالية وعينية من الجزائر كالبترول والغاز، ودول الاتحاد الأوروبي، وحتى على دول داخل الجامعة العربية، لحملهم على محاصرة الجنرال ولد عبد العزيز، رئيس المجلس العسكري الأعلى، ورفاقه، اقتصاديا وإعلاميا وسياسيا، وتشجيع فرض العقوبات المختلفة على موريتانيا، كما تقدمت الجزائر بمناسبة زيارة كاتبة الدولة الأمريكية في الخارجية، كوندوليزا رايس، بطلب مقاطعة الولايات المتحدة للحكام الجدد في موريتانيا، وتجميد الأرصدة الشخصية لأعضاء الحركة الانقلابية وعائلاتهم.