عزالدين السريفي
فرنسا الغازية.. فرنسا المخلصة:
من ضمن النصائح التي قدمها الداي حسين للغزاة الفرنسيين سنة1830م- ربما مقابل سماحهم له بمغادرة مدينة الجزائر حيا، بأهله وأمواله- ألا يقربوا جبال القبائل، لشدة مراس ساكنتها ورفضهم المطلق للخضوع لأي كان.
اقترح عليهم أن يسيروا على نهجه ويتركوا جبال الجرجورة لشموخها وأنفتها، وكل هواء الحرية الذي يعب منه البشر والشجر والحجر.
احتلت الجزائر -المدينة- سنة 1830م، كما هو معروف؛ وفي سنة 1848م، ألحق ما هو خاضع فعلا منها بالتراب الفرنسي، وفق تقسيم ثلاثي: منطقة وهران، منطقة الجزائر، ومنطقة قسنطينة.
أما الشعب القبائلي فتأخر إخضاعه إلى سنة 1857، وعلى عرش فرنسا الإمبراطور نابوليون الثالث. وأنا أبحث في أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية، ساعيا إلى فهم خصوصيات جبال الجرجورة، ومدى مشروعية مطالبة شعبها بدولة مستقلة عن الجزائر؛ عثرت على وثيقة عسكرية، مجهولة المؤلف، تعرض بعض خصوصيات المنطقة، والصعوبات التي واجهت الجيوش الفرنسية، وهي تحاول اقتحام قلاعها، وقممها، أو أعشاش النسور بها.
هكذا على عكس الانسياب الهادئ لاحتلال المناطق الثلاث المذكورة؛ حيث بدت فرنسا هِبة ربانية لتخليص الجزائر وتخومها من القراصنة الأتراك.
كل الوثائق التي اطلعت عليها، في موضوع الاحتلال الفرنسي للجزائر، تؤكد على مفارقة غريبة:
ما أن استتب الأمر للجيش الفرنسي في مدينة الجزائر، وخرجت فرق منه لاستكشاف التخوم المحيطة، حتى أصيب الجميع بخيبة أمل كبيرة:
ما هذا البلد الذي حشرنا فيه أنوفنا؟ ما هذه “السيبة “المحيطة بالمدينة؟ ما هذا الشعب الخامل، الذي يقضي سحابة يومه في تدخين “السبسي” ولعب الورق؟
تكد النساء لإطعام رجال لا يكسبون قطميرا.
وما شئتم من معاني الكسل والخضوع السهل الذي صدم الغزاة؛ وقد توالت التقارير العسكرية على باريس، وكلها عبارة عن سؤال واحد:
وماذا بعد؟ ماذا نفعل ببلد هذه مواصفاته؟ ومن هنا، ومن كل مساحات الفراغ الأخرى، التي وقف عليها الفرنسيون، لمعت في ذهن الملك لويس فيليب فكرة تأسيس مملكة جزائرية تابعة لفرنسا؛ لكن الرياح جرت في اتجاهات أخرى..
وقد بدا لي مفيدا أن أعرض بعض محتويات الوثيقة العسكرية؛ حتى تكتمل الصورة، خصوصا في أذهاننا نحن المغاربة؛ وقد أغفلنا لعشرات السنين شرعية مطلب الدولة القبائلية؛ نسانده عن حق، ونواجه به مطلب شذاذ الآفاق من الانفصاليين؛ ونعيد لصحرائنا ساكنتها المعتقلة في المخيمات؛ لا لشيء عدا خدمة أجندة نظام عسكري يصنع كل الأوهام، بحثا عن الشرعية التي افتقدها منذ الانقلاب على القادة الحقيقيين لجبهة التحرير..
العرف القبائلي في الأحكام:
“حينما نتأمل الطابع الغالب على العرق القبائلي، لن نتأخر في الاعتراف بكونه حب الحرية. إن القبائليين، على غرارنا، ينعمون بالاقتراع العام في تعيين أمنائهم/رؤسائهم.
وتوكل الترشيحات للشرفاء؛ يسعون، موظِّفين نفوذَهم، لاختيار الأمناء وحمايتهم”.
من الوثيقة
يتولى الأمين تدبير المالية العمومية؛ يستخلص الضرائب والذعائر. تصرف الأموال المحصلة في تغذية عابري السبيل، ومساعدة الفقراء، واقتناء الأسلحة والبارود لمن يعجز عن ذلك.
لا يتوفر الشعب القبائلي على قوانين مكتوبة؛ ولا يستند في أحكامه الا على الأعراف المتوارثة.
لقد بحث الجنرال “دوماس”DAUMAS في هذه الأعراف، ومما استخلصه من أحكام:
مكابدة الغزاة للصمود القبائلي البشري والجغرافي:
في 12 يناير 1858م هوجِم مُعمر فرنسي، بمسكنه، على ضفة نهر “سيباو” -آسيف نْسيباو- بمنطقة تيزي وزو.
أثارت العملية حماس القبائل المتمترسة بالجبال، فانحدرت بأسلحتها إلى السفوح.
في نهاية السنة نفسها ظهرت طلائع القوات الفرنسية؛ مما طمأن بعض القبائل التي خضعت للمستعمر قبل هذا. بدا النفير القبائلي العام، يسري كالنار في الهشيم؛ ولا شيء سلميا يمكن أن يحد من حماس الزعماء.
تورد الوثيقة:
“بناء عل تقرير للمرشال “راندون” RANDON اتّخذ قرار توجيه قوة كبيرة، سنة 1858، لتحقيق اكتساح واسع النطاق؛ من بين أهدافه طمأنة بعض ساكنة القبائل التي سبق أن خضعت للاحتلال”.
وتركز الوثيقة، بصفة خاصة، على قبيلة “بني راتن” -آيت يراتن- التي أحرزت قصب السبق في المقاومة القبائلية، لقوتها وغناها وسعة نفوذها في الأوساط القبائلية الأخرى، حتى الخاضعة قبلا للاحتلال. حفاظا على مكانتها هاته، وقد رأتها مهددة من طرف المستعمر، بذلت الغالي والنفيس لاستنهاض ساكنة الجبال؛ خصوصا وأن رجالها يتميزون بالشجاعة والذكاء والحيوية.
وقد كللت مساعيها بالنجاح سنة 1856، إذ استطاعت استنهاض تابعينا من “الغتشولا”، مما استوجب شن حملة تأديبية شلت الثوار.
“بأمر من جلالة إمبراطور الفرنسيين نابوليون الثالث، تلقى قسم من قوات إفريقيا الأمر بالزحف على قبيلة “آيت يراتن”:
على رأس هذه القوات الماريشال “راندون”، مدعوما بالجنرال “تورفيل” TOURVILLE رئيس الأركان العامة، ونائبه العقيد “بوسيت” POUCET.
آخر إنذار لشعب القبائل:
في التاسع عشر من شهر ماي، التأمت فرق الحملة بسفوح جبال القبائل.
نزلت الفيالق الثلاث بالضفة اليسرى لنهر “سيباو”؛ منفذها إلى عالية الجبال حيث “آيث يراتن”.
قبل انطلاق الحملة، صاعدة، قرر المارشال “راندون” توجيه الإنذار الآتي:
يا شعب القبائل: “لقد سبق أن مكناكم من سبل الاستفادة من نعم السلم؛ كما حملناكم على المشاركة في أرباح تجارتنا؛ وسمحنا لمسافريكم بالتنقل عبر أرجاء المناطق الخاضعة لهيمنتنا الأبوية، من أجل العمل أو الصناعة؛ والعودة، في ما بعد، للجبال محملين بغنائم كل هذا، بحماية من قوانيننا. لقد فهمَنا البعض حق الفهم، وسعوا إلى إقناع الآخرين بحسن نوايانا.
لكن كراهية البعض وغيرتهم، وسعيهم للحفاظ على مراكزهم، جعلهم يؤلبون علينا أتباعنا ويحاربونهم.
لقد قررت فرنسا اليوم، أن توصل راية نصرها إلى جبالكم:
لقد حلت ساعة مجازاة الرجال المخلصين، ومعاقبة المشوشين. بعد أيام سيحاسب كل واحد حسب سلوكه.
إننا نتوجه إليكم، بصفة خاصة، يا رجال “بني راتن”؛ لقد نقضتم عهدكم، وتحللتم من الالتزامات التي تفرضها عليكم وعودكم؛ التي سمعناها منكم بسبت بني يحيي أولا، وفي الجزائر، في ما بعد.
لقد تجرأتم على رفع راية العصيان، إلى جانب راية فرنسا التي يحملها الرؤساء الذين نصبناهم. لم تقتصروا فقط على بث الفتنة وسط مناطقكم، بل تجاوزتم بها إلى قبائل الجوار: بني فراوسن؛ بني خليلي؛ بني بوشايب؛ بني يحيى؛ وهي القبائل التي تنعم منذ مدة، بخيرات السلم.
وفي الأخير قدمتم للنيل من قوتنا، بمهاجمة “تيزي وزو”.
وعليه فلا تلوموا سوى أنفسكم على ويلات الحرب، وما تتسبب فيه من أضرار. ستكونون المسؤولين، إزاء إخوانكم الذين لم يكونوا يرغبون إلا في الاستفادة من فضائل السكينة. سنعرف كيف نميز بين الذين هم، على غراركم، رؤوس الفتنة؛ والذين انقادوا لهم. سنكون صارمين مع الأولين؛ أما الآخرون فإننا حتى اليوم، نعرض عليهم تسامحنا؛ إذا أقبلوا علينا بنوايا حسنة.
حينما تعقد فرنسا العزم على القتال، وهي قادرة على الانتصار، فإنها لا تفكر فقط في العقاب الذي ستوقعه؛ بل تسعى بهذه الوسيلة القاهرة إلى التأسيس في المستقبل لرفاه البلدان التي اضطرها الغضب إلى معاقبتها.
إنها تريد إشاعة النظام، من خلال الحكمة في القيادة، وتنمية الموارد المادية، والمحافظة على الممتلكات، وتثبيت المؤسسات الفعالة.
لم نأت إذن لتجريدكم من ممتلكاتكم، ولم نأت أبدا لتغيير مؤسساتكم، لأنها شبيهة بمؤسساتنا؛ لكننا نريد أن نكون مصدر السلطة، وأن نكون المُزكين لرؤسائكم الذين تنتخبونهم بأنفسكم.
سيواصل أمناؤكم تسيير مداشركم، وأمناء الأمناء تسيير قبائلكم، وفق عاداتكم وممارساتكم؛ لكن السلطة الفرنسية ستضرب على يد كل العناصر التي لم تعرف، إلى اليوم، سوى قاعدة بث الكراهية العمياء؛ في غياب أي رادع.
إليكم، إذن، يا بني فراوسن؛ بني خليلي؛ بني بوشايب وبني يحيى، النسيان وغفران زلات الماضي؛ إذا رغبتم في ذلك، لأنكم لم تكونوا سوى مُضللين.
أما أنتم يا بني راتن، ما دمتم تسعون للمواجهة، فلكم العقاب على أخطائكم؛ ثم رحمة المنتصر.
وعلى الجميع نعرض نعم السلم، واستتباب النظام، وفوائد التجارة، وحسن الاستقبال في أوساطنا؛ حينما تفدون علينا بصراحة وبقلوب صافية، وأرواح يحفزها حب الخير”.