عز الدين السريفي
لم تمر سوى 24 ساعة على حديث ناصر بوريطة، وزير الخارجية المغربي، يوم الجمعة الماضي أمام أعضاء مجلس النواب، عن وجود مساعي جزائرية لجر المنطقة إلى الحرب، حتى نفَّذت ميليشيات جبهة “البوليساريو” الانفصالية محاولة جديدة لاختراق الجدار الأمني، انتهت بمصرع المنفذين.
وسعت “البوليساريو الجزائرية” إلى تنفيذ عملية “نوعية” شرق الجدار الأمني، حيث انطلق عناصرها من داخل التراب الجزائري المجاور لمنطقة المحبس، في محاولة لاستهداف مواقع القوات المسلحة الملكية، قبل أن يتم رصدهم وقصفهم بواسطة طائرة مغربية مُسيرة، الأمر الذي أفضى إلى مقتل 5 أشخاص على الأقل، أحدهم قضى وهو يحاول توثيق “الهجوم”.
والظاهر، أن الدرون المغربية كانت مُستعدة لتحرك كهذا، إذ جرى استهداف المجموعة المسلحة داخل المنطقة العازلة في الوقت الذي كانت لا تزال تحاول فيه تصوير اللحظات الأولى من العملية، في إطار الدعاية التي تروجها جبهة “البوليساريو” الانفصالية، وتزامن ذلك مع تصريح وزير الخارجية المغربي الذي تحدث، دون مواربة، عن مسعى جزائري لإشغال فتيل الصراع العسكري في المنطقة.
ساعات قليلة تُظهر حجم البون الشاسع بين صمت مطبق من جانب دبلوماسية الجزائر التي اعتادت التعليق على كل شيء حتى لو لم يكن يعنيها في شيء، وبين انطلاقة رئيس الدبلوماسية المغربية بين رحاب سوتشي لإلقاء محاضرة حقيقة هم إفريقيا وفرصها واستقلال قرار دولها.
فالأكيد أن حديثا؛ في هذا التوقيت؛ لوزير الخارجية المغربي عن “احتمالية” حدوث حرب إقليمية هو أقرب إلى اختبار لسلوك العسكر الخطابي على الأقل، إذ يجعل هذا التصريح دبلوماسية الجزائر بين خيارين أحلاهما مرّ، إما أن ترد على تصريحات الوزير بوريطة بالتكذيب، وتعلن عن تمسكها بالسلام والاستقرار الإقليميين، وفي هذه الحالة ستخسر حالة التعبئة والشحن اللذان تستعملها في إلهاء جمهورها من المغيبين الذين تخدرهم بذلك، أو أن تعلن أنها فعلا تضع خيار الحرب على الطاولة وتستعد له صباح مساء ويمكنها أن تباشره في أي لحظة، وفي هذه الحالة سيكون العسكر على محك الاصطدام مع كل حلفائهم القدامى والجدد، وفي مقدمتهم ترامب الذي لم ينفك يتحدث عن اعتزامه إنهاء حروب وتوترات الشرق الأوسط وشرق أوروبا.
وأمام معضلة كهذه التي رمى الوزير بوريطة بالعسكر داخل آتونها، لم يجد القوم سوى جريدة الشروق لكي تعبر عن لسان حالهم، لتتهافت الجريدة الشاحبة مُنكبة على كتابة مقال بائس تطفق خلاله نحو تكذيب السيد الوزير، والتهجم البذيء على المغرب ومؤسساته، ثم لمز الأمريكيين بكون المغرب يُريد أن يقطع حبل الود بينهم وبين عسكر المرادية وكهنتهم الدائمي الإقامة، حيث أن الأفق الذي ينتظرونه هو إعادة ضبط منسوب العته الذي رشح عنهم في شكل شلال من الهذيانات الطائشة طوال الأربع سنوات الماضية، وهذا الضبط يفترض أن يواجهوا قدرهم حياله إما من لدن فرنسا التي سيتيح لها ترتيب معادلات استقرار شمال إفريقيا الفرصة لإثبات جدارتها الجيوسياسية بمنطق جديد قائم على احترام اختيارات المغرب وتعهد طيش الجزائر، أو من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي لن تكون عودة ترامب النسبة إليها سوى فرصة لتفعيل مقتضيات الخطوط العريضة الراسخة في سياستها الخارجية اتجاه القارة الإفريقية منذ العام 1995.
وبعيدا عن هذا وذاك فإن مجرد تحريك الوزير بوريطة لمياه البركة العسكرية الراكدة يضع كل خطاب هؤلاء عن الحرب على المحك، ذلك أن اختيار الجزائر لقرار الحرب ضد المغرب يقتضي منها أن تسلك أحد مسلكين؛ إما أن تقرر المضي نحو حرب مع المغرب وتباشر حربها فعلا كما فعل بوتين ضد أوكرانيا وأن لا تأبه مطلقا لأي من ردود فعل حلفائها أو خصومها، أن تكون مستعدة لدفع كل الأثمان، وأن تتحمل مسؤوليتها عن كل السيناريوهات والمفاجآت التي ستبيضها دجاجة الحرب، لا سواء تلك المرتبطة بملابسات الحرب نفسها أو تلك التي تتصل بردود الأفعال الدولية والإقليمية والأطراف المختلفة التي يمكن أن تدخل على الخط في أي لحظة، لاسيما والأمر بتعلق بحرب في منطقة ذات حساسية جيوسياسية منطقة النظير.
ومادام هذا الخيار مستحيلا، فإنه يتعين على العسكر أن يسلكوا مسلكا ثانيا؛ وهو القيام بتقديم صورة كاملة وواضحة عن طبيعة الحرب التي يريدون الإقدام على خوضها ضد المغرب، وتحديد طبيعتها ومداها ونطاقها، وكذا رسم سيناريوهاتها المختلفة، وذلك أمام من يستحيل على الجزائر أن تتخذ قرارا كهذا دون وضعهم في الصورة، أي أمام شركائها وحلفائها وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي ودوله، والناتو ودوله، فضلا عن التشاور بشكل مباشر مع الإسبان والفرنسيين والأمريكيين، وهؤلاء حتى وإن سلموا جدلا بأنه لا يهمهم في حرب بين الجزائر والمغرب أي شيء، فإنهم على الأقل سيهتمون لطبيعة هذه الحرب هل ستكون محدودة في الزمان والمكان أم مفتوحة على كل الاحتمالات، وهل نطاقاتها موضعية ومبنية على قواعد اشتباك أم يمكنها أن تتسع إلى مالا يوجد في الحسبان، وعلى العسكر حينئذ أن يلتزموا أمام الدول والكيانات المذكورة حيال أمن السواحل الجنوبية للمتوسط وضفاف جبل طارق، حيث هي منطقة ممتدة على ما يقارب الـ1700 كلم تقع قبالتها حدود بحرية مشتركة للجزائر والمغرب مع دول هامة مثل فرنسا وإسبانيا؛ نطاقاتها البحرية هي ذاتها نطاقات الناتو، ومجرد رمي عقب سيجارة عليه يعتبر تهجما على الناتو بأكلمه.
إذن يبدو أن هوس العمل “كناشطيْن فيسبوكييْن” قد جعل شنقريحة وتبون يتناسيان أنه يستحيل الدخول في حرب إقليمية دون الإجابة عن أسئلة كهذه، وعن أسئلة أخرى من قبيل: هل يملك القوم ضمانات أن التنظيمات الإرهابية الموجودة في الساحل لن تجد في الحرب بيئة مناسبة لتمدد نشاطها هي الأخرى نحو شمال إفريقيا؟ وهل خمنوا في أي ارتدادات للحرب على سلامة واستقرار بلادهم هم حيال أي نزعة انفصالية أو انحراف عسكري قد يقصم ضهر البعير ويحول مجرى الاحداث صوب عشرية سوداء أخرى أو عشرينية أو حتى ثلاثينية لربما؟، وهل فكروا في الصورة الأمنية التي سيصبح عليها شمال إفريقيا حينما يصبح مجالا للتوتر الأمني تتصل عبره الموجات القادمة من البحر الأحمر بالمحيط الأطلسي؟، ثم ما الوضع الذي ستكون عليه تدابير الهجرة السرية واللجوء الإنساني وموجات النزوح التي ماتزال تؤرق أوروبا بكاملها منذ ما يقارب العقدين من الزمان؟.
في وجه كل هذه السيناريوهات يتضح أن العبارة التي صدرت من الوزير بوريطة هي ورطة حقيقية لنظام العسكر، كي يُفكِّروا مليا في أي مقدار من الاتساق والانسجام ينبغي أن تكون عليه ترهاتهم التي يتفوهون بها بين الحين والآخر وبين واقع الأشياء ومقدار المعادلات الجيوسياسية الكبرى التي تَنْظِم العلاقات بين ضفتي المتوسط، خصوصا في القسم الغربي من هذا المجال الجغرا-بحري الهام. وإلا فإنه من باب أولى للعسكر أن يقوموا بما هو أسهل بكثير من كل العنتريات التي يعتشاون عليها صباح مساء ويجترونها بلا كلل، أو من التصابي الميداني الذي لن يؤدي إلى وقوع حرب إقليمية مهما راهنوا عليه في سبيل ذلك، فمن يريد حربا عليه أن يسهل حرب مرتزقته التي أعلنوها منذ أواسط نوفمبر من العام 2020، فلم نشهد لحدود اللحظة أي سلوك يغير شيئا في قواعد الاشتباك أو موازين القوى من جانب العسكر، كإمداد الصعاليك بأسلحة نوعية أو إعلان وحدة الساحات أو حتى مجرد الإعلان عن أن مشروع الانفصال في الصحراء المغربية هو بمثابة “قضية وطنية جزائرية”، فمما يخشى العسكر كي يُقدموا على إجراءات مثل هذه إن كانوا أصلا مستعدين لخوض حرب إقليمية شاملة ومفتوحة مع المغرب؟، تبقى تلك إجراءات بسيطة بالمقارنة مع هكذا خيار.
وإن وجدوا في تلك الإجراءات كلفة سياسية وقانونية ستورطهم مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وتضعهم في فوهة بركان حقيقي، فبوسعهم التفكير في ابرام اتفاقية دفاع مشترك مع بوليساريو ودولته الوهمية، ما داموا يعترفون بها ويقيمون معها علاقات دبلوماسية، بل ويعترفون لها بسيادة مزعومة على الصحراء المغربية، أليس من باب أولى أن يعتبروا أيضا أن أي نشاط عسكري تقوم به بوليساريو شرق الجدار العازل هو نشاط لجيش دولة يعترفون بها؟، والدفاع المشترك في هذه الحالة سيكون ذريعة سهلة لكي يدخلوا مع المغرب في حرب ولو انزلقت قدما عنصر من عناصر الجبهة الانفصالية في ممر رملي بالكاد؟، ربما هذه الطريقة هي الأسهل لمن يبحث عن ذريعة لإشعال فتيل حرب مع المغرب، لاسيما وأن هذا الأخير قد أعلن بعد الكركرات مباشرة أنه سيقوم بما يلزم للدفاع عن سلامة أراضيه، فيما أعلن المرتزقة استئناف أعمالهم العدائية تحت عنوان “العودة إلى الى الكفاح المسلح.
ومن أسهل الطرق التي يمكن أيضا للعسكر اللجوء إليها للإعراب فعليا عن نيتهم في أن تشتعل نيران الحرب بين الجزائر والمغرب هي العودة إلى اتفاقية حسن الجوار للعام 1969 والقيام بإلغائها بشكل أحادي الجانب، لاسيما وأن الاتفاقية تتضمن بندا ينص على التزام الدولتين بالامتناع عن اللجوء إلى الحرب لحسم أي خلاف قد ينشأ بينهما، فلماذا لا يقومون بمجرد إلغاء هذه الاتفاقية من جانبهم وإخطار الأمم المتحدة بذلك، ما داموا يريدون التصعيد على نحو عسكري؟، ألم يقوموا بإلغاء اتفاقية مثيلة مع الإسبان؟ أم أن هناك من حذرهم من التبعات القانونية للانسحاب من اتفاقية إفران، لاسيما تلك المتصلة بالمقتضيات التي جاءت بعدها، والتي يمكنها جميعها أن تنهار ويعود مشكل الصحراء الشرقية إلى ما قبل تأسيس الكيان الجزائري خلال العام 1962؟، وهو ما قد يجعل خيار الحرب يكون واقعا لا مفر منه لكنه سيعيد إلى فرنسا إحدى أهم الأوراق التي ناضل المغرب من أجل سحبها من يدها ليحل المشكلة مع “الإخوة الجيران” بعد “استقلالهم”؟.
من الواضح إذن أن العسكر لا يفعلون شيئا في سبيل البحث عن ذرائع حقيقية للحرب، وكل ما يريدونه هو الاستمرار في خطاب التعبئة والتحشيد والاستفزازات الدبلوماسية والإعلامية للمغرب والاستعراضات العسكرية البهلوانية ومزامنة كل ذلك مع ألعاب البارود النارية التي يقوم بها بوليساريو بين الفينة والأخرى، ويأملون من كل ذلك أن يرد المغرب بطريقة يمكن تصويرها على أنها عدوان على الجزائر، خصوصا بعدما فشلت حادثتا الشاحنتين ومقتل الأشخاص الثلاثة قبل قرابة الأربع سنوات. ولهذا فالكلمات المعدودات التي جاءت على لسان وزير الخارجية ناصر بوريطة كانت بوقع الصاعقة على التدبير العسكري الجزائري البهلواني المتخبط للملفات الإقليمية في توقيت تغير فيه الموقف الفرنسي جذريا وعاد فيه ترامب بكل مشاريعه الحازمة حيال الاستقرار العالمي وبلغت معه التوترات العسكرية وتداعياتها الاقتصادية على العالم عموما وعلى ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط أقصى مدى ممكن لها. فكيف للعسكر الآن يردوا بمجرد “تكذيب” على تصريحات الوزير بوريطة بالكاد؛ فبالأحرى أن يكونوا قادرين على تحمل مسؤولية الذهاب حو حرب لا تبقي حجرا على حجر؟؟