عز الدين السريفي
كل ما يحدث في الجزائر سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو الرياضي أو الثقافي أو غيره، يدل على وجود أزمة هوية في هذا البلد. وهي أزمة حقيقية تظهر في سلوك النظام بكل مكوناته. ولغباء هذا النظام وعبطه، فإنه يعتمد على أبواق ونخب أعبط منه للدفاع عن صورة البلد والعمل على إثبات هويته التاريخية والثقافية والحضارية، فيرتكبون حماقات تجعل الجزائر موضع سخرية عالمية عارمة.
انحدر النظام الجزائري إلى حفرة عميقة من التاريخ للبحث عن هوية مفقودة، يبني بها شرعيته كنظام قتل 250 ألف جزائري في العشرية السوداء (2002-1991). وهو ذات النظام الذي يبحث، أيضا، عن شرعية دولة جزائرية وصفها السياسي الجزائري نور الدين بوكروح بأنها قد تأسست من خلال “هجرة غير شرعية في التاريخ”، وأن الحفاظ على الذاكرة، هو أكبر عدو لوجودها.
النظام العسكري الممتدة منذ سنة 1965 حينما انقلب محمد إبراهيم بوخروبة، والمعروف ببومدين، على أحمد بن بلة الذي كان أول رئيس مدني بعد استقلال البلاد عن فرنسا سنة 1962، مازال عالقا في عقلية ما قبل سقوط جدار برلين، ويعيش حالة من التيه الهوياتي، جعلته في صراع قاسٍ مع التاريخ، وفي رحلة دونكيشوتية للبحث تحت أي قشّة عن هوية “الأمّة الجزائرية” المفقودة.
يقول عالم النفس جيمس مارسيا إن الهوية هي عبارة عن “بناء داخلي يمثل مجموع المعتقدات والقدرات والدوافع وتاريخ الفرد، وكلما كان هذا البناء متينا كلما كان الفرد أكثر وعيا بأوجه التفرّد والتشابه مع الآخرين، في حين كلما كان هذا البناء ضعيف التشييد كلما كان الفرد مشوشا حول ما يميزه عن الآخرين، وكلما صار أكثر اعتمادا على مصادر خارجية لتقييم ذاته واكتشافها”.
هو اختصار ما تعيشه الجزائر. أزمة هوية سحيقة، ولتعويض هذا الخلل الفضيع في البنية التاريخية للفرد وللجماعة في الجزائر لجأ النظام العسكري لثقافة الريع الهوياتي لصنع “هوية أمّة”، بعد أن أدرك النظام الحاكم أنّ الشعب الجزائري “جائع” لتاريخ يستند إليه في التعبير عن ذاته. أو ببساطة هو شعب يعيش أزمة هوية التي تعد “حدثا متطورا يتلخص في أن لا يعلم الشخص يقينًا من هو”. وفق تعبير مؤسسة مفهوم الهوية عالم النفس إريك إريكسون، الذي كان يؤمن بأن “تَكَوّن الهوية وتحديد ملامحها من أكثر الأزمات التي يمر بها الفرد أهمية”. أو كما قال السياسي الجزائري نور الدين بوكروح الذي ترشح للانتخابات الرئاسية عام 1995 إن “الجزائر أسَسَت لثقافة الأفكار الريعية”.
وهو ذات المفهوم الذي عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكتوبر 2021 حينما اتّهم النظام السياسي العسكري الجزائري بإنشاء “ريع للذاكرة”، مذكرا إياه بأنه “لا توجد أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي”، والحديث عن وجود أمة قبل هذا الاستعمار هو مجرد “وهم”. تعبير ماكرون هو امتداد لحقائق تاريخية سبق أن أكدها سنة 1959 الرئيس الفرنسي الأسبق، الجنرال شارل ديغول حينما قال إنه “ومنذ بداية التاريخ، لم تكن هناك بتاتا وجود دولة جزائرية ذات سيادة”. وأن البلاد دخلتها الامبراطوريات تلوى الأخرى طيلة تاريخها قائلا في هذا السياق: “القرطاجيون والرومان والوندال والبيزنطيون وعرب الشام وعرب قرطبة والأتراك والفرنسيون، كلهم دخلوا هذا البلد الواحد تلو الآخر، ولم تكن هناك دولة جزائرية في أي وقت ولا بأي طريقة”.
ولأن الدولة الجزائرية لم تؤسس إلاّ سنة 1962، وهي عبارة عن خليط من الأجناس والأعراق مثل “الكراغلة” وهو مصطلح يعني النسل المختلط بين الرجال الأتراك والنساء ممن سكنوا الجزائر من الأمازيغ والعرب وقبائل المزابيين والأوروبيين ممن جاءَ بهم الاستعمار المتوالي على تلك الأرض، عمل النظام على صنع “هوية تاريخية مزورة” عوض بناء الإنسان وفق التنوع البشري والعرقي للبلاد بعد الاستقلال، فدخل في نوع من الخرف التاريخي، حيث الحديث عن “مليون ونصف شهيد” خلال الثورة الجزائرية، وهي مقولة نطق بها جمال عبد الناصر فَحَوّلها الجزائريون إلى “مُستند تاريخي”، وزاد عليها الرئيس الحالي 3.5 مليون شهيد ليصبح المجموع خمسة ملايين شهيد!
وهكذا، أصبح تضخم الأنا والخواء الفكري والتاريخي ثقافة راسخة عند النظام العسكري الجزائري، وتبناها الشعب مع توالي السنوات وتغذية وعيه بأوهام تاريخية أصبحت مقدسة، فصَدّق أن القفطان والزليج وأحيدوس والفن الغرناطي.. هي إرث ثقافي جزائري، وأن بلاده هي “دولة الخمسة ملايين شهيد” و”مكّة الثوار”.
ومع هذه الفونتازيا، حَوّل النظام العسكري الحاكم كل هموم الشعب الجزائري حول “قطعة زليح، وخريطة في قميص فريق مغربي، وأحقيتهم في بنادير رجال الأطلس وهم مستمتعون برقصة أحيدوس، مع ترسيخ عدوٍ وهميٍّ إسمه المغرب”، حتى بات الجزائري يقضي يومه في بحثٍ دائم وأسطوري عن من هُو وما َيملك وما لا يملك، وما هي جدوره التاريخية، وكيف “سرقوا هويته”.
وهذه هي الأسطوانة التي يكررها الإعلام الجزائري، في اليوم آلاف المرات، وعلى مدار الساعة، ويتحدث به ساسة البلاد، حتى أن الكاتبة الفرنسية celine pina اعتبرت أن الإعلام الجزائري يغوص في الكراهية، فإن كانت النخبة الجزائرية بهذا المستوى المنخفض، لنتخيل بقية الشعب كيف هو
حاله!
باتت العصابة قليلة الحيلة إلى درجة أنها طفقت تستنجد بالصغار لحياكة مؤامرات صغيرة وخسيسة وصناعة فرقعات إعلامية لم يتحدث عنها غير جيش الصحافيين/ الموظفين المكلفين بمهمة لدى عسكر شنقريحة، وقد صدق الكاتب بوعلام صنصال، فك الله أسره، عندما وصف الجزائر بأنها مجرد تجمع بشري بدون تاريخ أو هوية، فعلا هي كذلك يا سيد بوعلام، وعلى رأس هذا التجمع البشري بات يتربع ما يشبه “دولة لقيطة” رأت النور نتيجة علاقة غير شرعية مع فرنسا.
المغرب دولة عريقة والجزائر “دولة” لقيطة، فماذا تفعل العاهرة عندما تجد بجانبها جارة شريفة؟. الجواب معروف، طبعا ستفعل كل ما في وسعها لتلطيخ سمعة الجارة وتزوير تاريخها، وهذا ما تقوم به العصابة في الجزائر بالضبط، تحاول تلطيخ سمعة المغرب وتزوير تاريخ المملكة الشريفة جنوبا وشمالا مستعينة بفيلق من المرتزقة الذين لا تاريخ ولا شرف لهم، مقابل أموال تدفعها لمن باعوا ضمائرهم في سوق النخاسة الجزائرية وقبلوا لعب دور الكومبارس المدفوع الأجر في مسرحية العاهرة/ الجزائر، فما فعله لقطاء البوليساريو بالأمس هو، بالضبط، ما يفعله اللقطاء الذين يتكلمون باسم الريف والمجاهد عبد الكريم الخطابي اليوم، وهو ليس شيئا آخر غير ممارسة “عهر سياسي” مقابل أموال تضخها الجزائر في حساباتهم، تحاول العصابة أن تخفي جرائمها مرة أخرى بافتعال مشكل وهمي مع المغرب والحال أنه كان حريا بها أن تنتبه، هذه الأيام، لحل مشاكلها مع فرنسا التي قامت فيها الدنيا ولم تقعد نتيجة اختطاف الكاتب و الروائي بوعلام صنصال، فقط لأنه فاه بالحقائق التاريخية الموجعة و قال ما نقوله نحن أيضا في هذا المقال، وهو حقيقة تاريخية تاريخية لا غبار عليها: “الجزائر تجمع بشري بلا تاريخ ولا هوية”، ومن لا تاريخ له يحاول دائما أن يزور تاريخ الآخرين، لكن هيهات، فلا جيش المرتزقة الذين تشترون ذممهم بأموال النفط والغاز ولا سيل الأكاذيب التي تنتجونها كل يوم ستجعل العاهرة-في نظر من يعرفون حقيقتها- مقنعة، وهي تحاضر في الشرف.