أصبحت الأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، حيث تؤثر على استقرار الدول، وتُضعف ثقة المواطنين في مؤسساتهم، وتغذي الانقسامات المجتمعية. في المغرب، كما في دول أخرى، يتطلب التصدي لهذه الظاهرة مقاربة شاملة تجمع بين الإعلام المهني، والتشريعات الرادعة، والوعي المجتمعي، لمواجهة الحملات التضليلية التي تستهدف مؤسسات الدولة وتعزز الشكوك بين المواطنين.
سامي المودني*
في صيف 2024، وبالتحديد خلال شهر يوليوز، شهدت مدينة ساوثبورت الإنجليزية حادثة مأساوية هزت الرأي العام: جريمة قتل مروعة في قاعة رقص للأطفال، حيث قُتلت ثلاث فتيات صغيرات وأصيب آخرون بجروح خطيرة. المتهم، شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يُدعى أكسل روداكوبانا، عُثر بحوزته على مادة الريسين السامة ودليل تدريبي لتنظيم القاعدة، مما أثار التكهنات حول دوافع الهجوم.
ولكن مع تطور التحقيقات، اندلعت حرب أخرى لم تكن سوى حرب على الحقيقة. فالشرطة البريطانية لم تصنف الجريمة كعمل إرهابي، ما أثار عاصفة من الجدل والتكهنات على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع كل تصريح رسمي، كانت الشكوك تتفاقم، مدفوعة بتغريداتغاضبة ومنشورات فيسبوكية مليئة بنظريات المؤامرة. لماذا لم يُعلن عن تفاصيل القضية منذ البداية؟ هل هناك تلاعب في التحقيقات؟ هل تسعى السلطات إلى إخفاء شيء ما؟
هذه الأسئلة انتشرت كالنار في الهشيم، مخلّفة حالة من عدم الثقة بين المواطنين والمؤسسات. وبسرعة، لم يعد الجدل يتمحور حول الضحايا وتحقيق العدالة، بل حول الشفافية والمصداقية، مما أدى إلى تصاعد موجات الكراهية، بل وأعمال عنف محدودة في بعض المدن البريطانية.
هذه الحادثة لم تكن مجرد قضية جنائية، بل اختبار حقيقي لمدى قدرة المؤسسات على الحفاظ على ثقة المواطنين في عصر الأخبار المضللة، فما بدأ كحادث مأساوي تحول إلى اختبار قاسٍ لمدى قدرة المؤسسات على الحفاظ على ثقة المواطنين. وهو ما يوضح لنا بجلاء خطورة الأخبار الكاذبة التي لم تعد مجرد معلومات مغلوطة، بل أداة قادرة على إعادة تشكيل الرأي العام وزعزعة الاستقرار، خصوصًا مع الانتشار السريع الذي توفره المنصات الرقمية.
التضليل الإعلامي والثقة في المؤسسات
في عصر الثورة الرقمية، أصبح انتشار الأخبار الزائفة تحديًا كبيرًا أمام الدول والمجتمعات. فبينما يُفترض أن تساعد وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المعرفة وتعزيز الوعي، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى بيئة خصبة للأخبار المغلوطة، مما أدى إلى تفاقم أزمة الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم.
المغرب، شأنه شأن العديد من الدول، لم يسلم من موجة التضليل الإعلامي. فأخبار زائفة يتم تداولها حول قرارات حكومية، إجراءات أمنية، وملفات اقتصادية حساسة، تؤدي إلى توسيع الفجوة بين الدولة والمجتمع، ما يخلق بيئة خصبة لنظريات المؤامرة. ومن بين أبرز الأمثلة الحديثة، انتشار شائعات حول طبيعة التدخلات الأمنية في بعض القضايا الحساسة، مما دفع السلطات إلى تكثيف جهودها في كشف الحقائق بسرعة قبل أن تتحول المعلومات المغلوطة إلى وقود للأزمة.
وقد حذّر بوبكر سبيك، الناطق الرسمي باسم المديرية العامة للأمن الوطني، من خطورة التشكيك في عمليات تفكيك الخلايا الإرهابية، مشيرًا في ندوة صحافية إلى أن هذا النوع من التضليل يخدم الأجندات المتطرفة، ويؤدي إلى إضعاف الثقة في الجهود الأمنية للدولة. وأضاف أن الجماعات الإرهابية لم تعد تعتمد فقط على العنف المباشر، بل أصبحت تستخدم الأخبار المضللة كأداة لخلق الفوضى والتشكيك في مؤسسات الدولة.
وهذا يبقى مجرد نموذج من ضمن عشرات الأمثلة من الوسائل التي يتم اللجوء إليها من أجل زعزعة ثقة مجتمع في مؤسساته. إن الأخبار الزائفة والمضللة، قد تتحول والحالة هاته إلى تهديد مباشر للأمن المجتمعي، لأنها تتميز بسرعة انتشارها، حيث يتم تداولها على نطاق واسع قبل التحقق من صحتها.
على سبيل المثال “بعد خمس سنوات من الجائحة، أصبح الخطاب الكاذب حول كوفيد-19 جزءًا من التيار العام“، حسب الصحافية المتخصصة في العلوم لورا سبيني (Laura Spinney)، التي كشفت في مقال لها منشور في موقع جريدة الغارديان البريطانية، أن “الروايات الزائفة حول جائحة كوفيد-19، التي روجت لها بعض الجهات، أصبحت منتشرة بعد خمس سنوات من الجائحة، مما أدى إلى تآكل الثقة في المؤسسات العلمية والصحية“.
التضليل الإعلامي.. أساليب المواجهة
تتنوع أساليب التضليل الإعلامي، ومن أبرزها الترويج لنظرية “الدولة العميقة” وخلق انقسامات وهمية بين مؤسسات الدولة، وهي تكتيكات تم استخدامها في العديد من الدول لمحاولة زعزعة استقرارها الداخلي.
في المغرب، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي عبر الصفحات المعلومة والمجهولة المصدر، ساحة مفتوحة لحملات تضليل ممنهجة، تستهدف تشويه صورة المؤسسات الرسمية، ليس فقط بغرض الإساءة إليها، بل لخلق حالة من الريبة والشك الدائم في كل قراراتها.
وقد أظهر تقرير دولي صادر عن منصة “مسبار” في يوليوز 2024، أنها رصدت15 خبراً مضللاً في شهر واحد فقط يخص المغرب، وهو ما يعكس حجم المشكلة التي تواجهها البلاد.
وإن أثبتت المملكة المغربية، عبر مختلف المحطات، أن تماسكها الداخلي يظل أقوى من هذه الحملات المضللة، حيث نجحت في الحفاظ على استقرارها رغم التحديات الإقليمية والدولية، إلا أنه يجب استحضار أن الأخبار الزائفة ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي سلاح خطير يستهدف استقرار المجتمعات وزعزعة الثقة في مؤسساتها.
من أجل إبراز خطورة الوضع وتأثيره على المديين المتوسط والبعيد على المجتمعات والدول، ينبه الباحث آرون تيدمان(Aaron Tiedemann) في دراسة قيمة باللغة الإنجليزية بعنوان “لماذا يتوق الأمريكيون إلى الأخبار الزائفة” (Why Americans Crave Fake News)، إلى تأثير التضليل الإخباري على الديمقراطية، مبرزا أن الديمقراطية تعتمد على المشاركة الفعالة والصادقة للمواطنين، لكن المعلومات المضللة، تشكل تهديدًا خطيرًا لها، فهي تعيق قدرة المواطنين على اتخاذ قرارات مستنيرة، مما يؤدي إلى تشويه تصوراتهم السياسية وتعزيز الانقسام المجتمعي.
وفي المغرب، أصبح من الضروري تكثيف الجهود لمكافحة هذه الظاهرة عبر وعي مجتمعي أكبر، وتشريعات رادعة، وإعلام مهني مسؤول، لمواجهة حملات التضليل الإعلامي التي نتابعها عبر بعض شبكات التواصل الاجتماعي. فالمعركة ضد التضليل الإعلامي ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل هي مسؤولية الجميع، خصوصا وأن استهداف بلادنا بالأخبار الزائفة والتضليلية أصبح أمرا مثبتا.
مسؤولية الإعلام في مكافحة التضليل
لمواجهة هذه الظاهرة، يتعين على وسائل الإعلام، خاصة الإعلام العمومي، أن تكون في موقع الريادة في محاربة الأخبار الزائفة، ليس فقط عبر تصحيح المعلومات الخاطئة، بل أيضًا عبر تقديم محتوى تحليلي يفضح آليات التضليل.
إن الإعلام العمومي المغربي مطلوب منه الانتقال من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، عبر:
– إنتاج برامج تثقيفية حول التضليل الإعلامي، تشرح للمواطنين كيف يتم التلاعب بالمعلومات.
– تنظيم نقاشات مفتوحة حول حرية الإعلام والمسؤولية المهنية، لتعزيز الشفافية.
– التعاون مع مؤسسات البحث والمجتمع المدني، لدعم جهود التوعية الإعلامية.
إلى جانب ذلك، فإن وسائل الإعلام الخاصة مطالبة بالالتزام بالتحقق من الأخبار، وعدم الانجرار وراء السبق الصحفي على حساب المصداقية، فيما يتحمل المجتمع نفسه مسؤولية تطوير وعيه الإعلامي، بحيث لا يكون مجرد مستهلك سلبي للمعلومات.
فضلا عن دور الإعلام بشقيه الخاص والعمومي، أكدتدراسة صادرة عن البرلمان الأوروبي سنة 2019،حول “التضليل الإعلامي والدعاية: تأثيرهما على سيادة القانون في دول الاتحاد الأوروبي”، على مسؤولية المنصات الرقمية الكبرى مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب فيتنظيم خوارزمياتها بحيث تعطي الأولوية للمحتوى الموثوق على حساب الأخبار الكاذبة، كما أوصت بدعمالبحثالعلمي حول تأثير التضليل الإعلامي وتطويرأدوات ذكيةتعتمد على الذكاء الاصطناعي لكشف الأخبار الكاذبة، وتعزيز التعاون الدولي لمكافحة التضليلالقادم من جهاتأجنبية تهدف إلى زعزعة استقرارالديمقراطيات، والتعاون بين وسائل الإعلام العامة والخاصة والمنصات الرقمية لضمان وصول المعلومات الدقيقة للمواطنين بسهولة، وهي كلها توصيات يمكن الاستفادة منها في السياق المغربي.
ختاما، فإن التضليل الإعلامي ليس مجرد تحدٍ عابر، بل هو معركة طويلة تتطلب تضافر جهود الدولة، والإعلام، والمجتمع المدني. وفي المغرب، كما في دول أخرى، يبقى الوعي المجتمعي، والتشريعات الصارمة، والإعلام المهني الركائز الأساسية لمواجهة خطر الأخبار الكاذبة والمضللة وحماية الثقة في المؤسسات.
* صحافي وباحث في قضايا الإعلام وحقوق الإنسان
نبذة عن الكاتب
سامي المودني: صحافي ورئيس تحرير بقناة ميدي 1 تيفي الإخبارية. يمتلك خبرة واسعة في الصحافة الاستقصائية، حيث أنجز العديد من التحقيقات المكتوبة والتلفزيونية، وأشرف على إعداد وإخراج عدة أفلام وثائقية. حاز على عدة جوائز في الصحافة الاستقصائية، من أبرزها جائزة دبي للصحافة العربية سنة 2014.
باحث في سلك الدكتوراه بـالمعهد العالي للإعلام والاتصال، متخصص في حرية الصحافة وأخلاقياتها، تحليل الخطاب الإعلامي، التواصل السياسي، وحقوق الإنسان.
على المستوى المدني، يشغل عدة مناصب، فهو الرئيس المؤسس للمنتدى المغربي للصحافيين الشباب، وعضو المكتب التنفيذي للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان منذ سنة 2018، كما يشغل مهمة منسق “الشبكة المغاربية لحرية الإعلام“.