عز الدين السريفي
في ضربة موجعة جديدة للسلطات الجزائرية، رفضت محكمة الاستئناف في باريس، اليوم الأربعاء، طلب تسليم المعارض القبائلي أكسل بلعباسي، معتبرة أن الطلب “لا ينطبق”، وهو تعبير قانوني يشي بعدم استيفاء الطلب للمعايير الدولية لتسليم المطلوبين، لا سيما في القضايا التي تُشتبه بأنها ذات طابع سياسي أو تنطوي على انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان.
هذا القرار ليس مجرد انتصار قانوني لشخص، بل يشكّل صفعة دبلوماسية وقانونية للسلطات الجزائرية، التي حاولت توظيف النظام القضائي الفرنسي في تصفية حسابات سياسية مع خصومها، مستخدمة تهمًا فضفاضة ومطعونة في مصداقيتها.
الماك بين المطالب السلمية وتهم الإرهاب
تتهم الجزائر حركة “الماك” التي ينتمي إليها بلعباسي، بأنها تنظيم “إرهابي”، رغم أنها، بحسب كثير من المراقبين، تمثل امتدادًا لمطالب تاريخية تتعلق بالهوية والحقوق الثقافية والسياسية لشعب القبائل. ومنذ عقود، تطالب هذه الحركة بتقرير مصير منطقة القبائل، في إطار سلمية واضحة، عكس ما تحاول السلطة في الجزائر تصويره.
تأتي هذه التهم في سياقٍ معروف في الأنظمة السلطوية: شيطنة المعارضين باستخدام تهم الإرهاب والعمالة والتآمر على أمن الدولة، من أجل كبح الأصوات الحرة داخل البلاد وتشويهها أمام الرأي العام الدولي.
الحرائق المفتعلة.. وسيناريوهات محبوكة بلا أدلة
من أبرز التهم التي سيقت ضد بلعباسي، تحريضه على إشعال الحرائق الكارثية التي اجتاحت منطقة القبائل في صيف 2021، وهي الحرائق التي اتهمت الحكومة الجزائرية فيها أطرافًا خارجية ومحلية بشكل عشوائي، من دون تقديم أدلة دامغة. الأغرب أن بلعباسي، المقيم في فرنسا منذ 2012، اتُّهم بتحريك أحداث دامية عن بعد، وكأنه يملك عصا سحرية لتحريك الأزمات في الجزائر.
المحكمة الفرنسية – المعروفة بصرامتها واستقلالها – لم تقتنع بملف مليء بالثغرات، وأشاحت بنظرها عن خطاب دعائي مكرور تحاول الجزائر تصديره في كل مرة يُحرجها فيها معارض في الخارج.
قضية جمال بن إسماعيل.. مأساة إنسانية تحولت إلى ورقة سياسية
حادثة مقتل الشاب جمال بن إسماعيل – الذي قُتل على يد حشود غاضبة في حادثة مروعة – حوّلتها الجزائر إلى أداة اتهام جاهزة ضد حركة الماك. بدل أن تفتح السلطة تحقيقًا شفافًا في أسباب تأجيج تلك المشاعر الغاضبة، وظّفت المأساة لتوسيع دائرة القمع، وتوجيه تهم ثقيلة لأفراد الحركة في الخارج دون سند قانوني.
العدالة الفرنسية، التي راجعت الملف الجزائري، أدركت أن القضية ملوّثة باعتبارات سياسية، وأن تسليم بلعباسي يشكّل خطرًا على حقوقه الأساسية في محاكمة عادلة.
الرسالة الأوروبية إلى الجزائر: لا حصانة للقمع
القرار الفرنسي يعكس موقفًا أوروبيًا متناميًا باليقظة تجاه تدهور الحريات في الجزائر، خصوصًا بعد حراك 2019 الذي كشف أن النظام ما يزال عاجزًا عن الانفتاح الحقيقي على مطالب التغيير، وأنه يعتمد أدوات القمع بدل الحوار.
فرنسا، التي تتعرض أحيانًا لانتقادات بشأن علاقاتها مع الجزائر، أوصلت اليوم رسالة واضحة: لا يمكن تبرير القمع الداخلي بتهم الإرهاب الملفقة، ولا يمكن تحويل القضاء الأوروبي إلى أداة انتقام سياسي.
الخلاصة: زمن الإفلات من المساءلة الدولية انتهى
رفض تسليم أكسل بلعباسي هو رفض لنهج الترهيب السياسي باسم القانون. وهو اعتراف غير مباشر بأن الجزائر، في تعاملها مع المعارضة، لا تراعي المعايير الدولية في العدالة ولا في حقوق الإنسان.
الكرة الآن في ملعب السلطات الجزائرية: هل ستعيد النظر في تعاملها مع معارضيها، وتفتح صفحة حوار حقيقي، أم ستواصل تضييق الخناق على كل صوت حر، لتجد نفسها معزولة دوليًا ومجروحة الشرعية أمام العالم؟
ما حدث في باريس ليس نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة من التدقيق في مدى صدقية الخطاب الرسمي الجزائري، داخليًا وخارجيًا.