إذا أجرينا مسحاً سريعاً للصراعات الإقليمية التي نجد تركيا طرفاً فيها سنصاب بالدهشة من كثرتها إلى درجة يمكن القول معها إن «سياسة صفر مشكلات مع دول الجوار» التي كانت شعاراً للسياسة الخارجية التركية في زمن سابق، انقلبت إلى مشكلات مع كل دول الجوار إضافة إلى دول أبعد. إنه لأمر مستغرب أن تنقلب السياسة الخارجية لدولة من الدول هذا الانقلاب الدراماتيكي في زمن قياسي.
سوريا… العراق… ليبيا… أذربيجان… اليونان وقبرص، ومن ورائهما فرنسا في المشكلة المتعلقة بالصراع على مخزونات الغاز الطبيعي في شرقي البحر الأبيض المتوسط. في هذه المشكلة الأخيرة المرشحة لمزيد من التوتر تقف جميع الدول الغربية، شركاء تركيا في حلف شمال الأطلسي، إلى جانب اليونان ضد تركيا. فإذا أضفنا إلى ذلك مصر والسعودية والإمارات التي تخاصم تركيا ووصل بها الأمر حد مقاطعة البضائع التركية، اكتمل طوق العزلة الدولية حول أنقرة، في حين يمضي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحاته شبه اليومية، بعيداً في مزيد من استعداء تلك الدول.
وبصرف النظر عن مسألة الأحقية، من الطرف الظالم ومن المظلوم ـ فلا قيمة لذلك في العلاقات الدولية ـ سنرى أن القيادة التركية تتصرف وكأن تركيا دولة عظمى تفعل وتقول ما تشاء، غير آبهة بردود أفعال الخصوم، في حين أنه حتى دولة كالولايات المتحدة المصنفة قوة عظمى وحيدة تسعى، في الملمات، إلى كسب الحلفاء والأصدقاء في كل حدث مهم. كان بوسع واشنطن مثلاً أن تحارب تنظيم الدولة (داعش) لوحدها، لكنها كرست جهودها الدبلوماسية لجمع أكبر تحالف دولي في حربها على التنظيم المذكور. ونعرف أن العبء الأكبر، بشرياً ومالياً ولوجستياً واستخباراتياً، وقع عليها في الحرب المذكورة، مع مشاركة رمزية للدول الأخرى. غير أن تلك المشاركة الرمزية وفرت غطاءً سياسياً للحرب هو الأهم من وجهة نظر واشنطن.
تتيح لنا هذه المقارنة معرفة القيمة السالبة للعزلة السياسية الدولية التي وضعت تركيا نفسها فيها في تدخلاتها في الصراعات الإقليمية، تلك العزلة التي استطاع الإعلام الموالي أن يحوّلها، كلامياً، إلى قيمة إيجابية حين ابتكر لها وصفاً عجيباً هو «العزلة الثمينة» في تحوير لمصطلح «العزلة المجيدة» الذي وصفت به السياسة الخارجية البريطانية في عهد حزب المحافظين في أواخر القرن التاسع عشر. مع العلم أن الاقتصاد التركي، في العقود الأخيرة، مبني على تشابك عميق مع الاقتصاد العالمي، ويعتمد كثيراً على التجارة الخارجية والسياحة واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، فلا يمكنه تحمل أي عزلة، وبخاصة في ظل الظروف الحالية التي بدأت قبل انتشار وباء كورونا وتفاقمت بعده. جرت حادثة، قبل أيام، في إحدى مدن الأناضول من شأنها أن تلخص حال الاقتصاد التركي ومنعكساته الاجتماعية، أثارت اهتمام الرأي العام بشكل واسع. كان الرئيس أردوغان في جولة على الأقدام في أسواق المدينة، بدافع حرصه الدائم على التواصل المباشر مع مختلف شرائح الشعب. وحدث أن أحد الباعة اشتكى إليه الوضع المعيشي الصعب قائلاً: «نحن لا نملك القدرة على شراء الخبز للبيت» فرد عليه أردوغان وهو يقدم له علبة من الشاي: «أنت تبالغ. خذ واستمتع بشرب الشاي».
حسابات السلطة في السياسة الداخلية هي الدافع وراء سياسة التصعيد تجاه الدول الأخرى، فهذا التصعيد يداعب مشاعر الجمهور المتعطش إلى انتصارات قومية على «الخارج المعادي» والمستعد لتحمل عواقب ذلك على مستواه المعيشي مقابل استعادة أمجاد الأجداد
هناك إذن وضع اقتصادي صعب، من مفرداته تفاقم الديون الخارجية مستحقة الدفع، انخفاض مستوى احتياطي العملات الصعبة في البنك المركزي، التراجع المطرد في القيمة الشرائية لليرة التركية وأمام العملات الأخرى، وما يعنيه ذلك من ارتفاع مستوى التضخم، ارتفاع أرقام البطالة، اختلال في الميزان التجاري، وكل ذلك يتوج بفقدان البيئة المشجعة على الاستثمار بسبب التراجع الكبير في استقلالية البنك المركزي والمؤسسة القضائية معاً إزاء السلطة التنفيذية.
وعموماً أدى التحول إلى نظام رئاسي إلى تركيز كبير للسلطات في يد الرئيس، مقابل تراجع أهمية كل من الحكومة والبرلمان في توازن السلطات، إضافة إلى تحويل 90٪ من وسائل الإعلام إلى أداة دعائية للسلطة، لا تعكس حقيقة الوضع الاقتصادي ومشكلاته، بل تسعى إلى تجميله بتلفيقات عجيبة كما فعل وزير المال برات آلبيرق قبل فترة حين قال إنه لا أهمية لانخفاض قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، أو حين تحدث رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، حليف أردوغان، عن الاقتصاد التركي الذي هو في أفضل أحواله وعلى عتبة صعود مطرد. المفارقة أن حزب بهجلي القومي أطلق حملة توزيع الرغيف المجاني على من يحتاجه من المواطنين، في دليل عملي على خلو تصريحه بخصوص الاقتصاد من أي مضمون.
تشير استطلاعات الرأي التي تقوم بها مؤسسات متخصصة إلى تراجع مطرد في شعبية الحزب الحاكم وحليفه في «تحالف الجمهور» ويمكن تخمين أن أحد أسباب ذلك، إن لم نقل السبب الأهم، هو الوضع الاقتصادي، وبخاصة انعكاساته السلبية على الوضع المعاشي للطبقات المتوسطة والدنيا.
لماذا إذن تزيد القيادة التركية عدد الخصوم في علاقاتها الدولية، مع المجازفة بالتعرض لعقوبات اقتصادية من الاتحاد الأوروبي (بسبب النزاع على شرقي المتوسط) والولايات المتحدة (بسبب سوريا وصواريخ إس 400 الروسية) والدول العربية (بسبب الصراع في ليبيا، والموقف التركي من نظام السيسي في مصر)؟
الجواب الذي يقدمه كثير من المحللين السياسيين الأتراك هو أن حسابات السلطة في السياسة الداخلية هي الدافع وراء سياسة التصعيد تجاه الدول الأخرى، فهذا التصعيد يداعب مشاعر الجمهور المتعطش إلى انتصارات قومية على «الخارج المعادي» والمستعد لتحمل عواقب ذلك على مستواه المعيشي مقابل استعادة أمجاد الأجداد. ومن ناحية أخرى يتيح افتعال أزمات مع الدول الأخرى للسلطة أن تقول لجمهورها إن أعداء الخارج، وامتداداتهم في الداخل (أي المعارضة) هم المسؤولون عن بؤسه.
لقد ارتد النظام الرئاسي الذي سعى إليه التحالف الحاكم على طموحات أردوغان في إدامة حكمه سنوات إضافية. فهو يحتاج إلى نسبة 50+1٪ من أصوات المقترعين ليحظى بولاية جديدة، الأمر الذي أصبح صعب التحقيق. كما يحتاج إلى تقديم موعد الانتخابات ليحق له الترشح لولاية ثالثة، الأمر الذي يحتاج إلى موافقة أكثرية الثلثين في البرلمان وهو ما لا يملكه التحالف الحاكم.
بكر صدقي ، كاتب سوري