عادل بن حمزة ، كاتب ومحلل سياسي
يعبّر مفهوم الانتقال الديموقراطي أو التحول الديموقراطي في العلوم السياسية، عن وضعية الدول التي تعرف تحولاً في أنظمة الحكم، من أنظمة سلطوية مغلقة إلى أنظمة منفتحة على الممارسات الديموقراطية، هذا الانتقال يتجلى في تغيير البنية القانونية والمؤسساتية للأنظمة القائمة، واتخاذ التدابير والإجراءات التي تسمح بمشاركة واسعة للمواطنين في العمل السياسي، وتمتعهم بكامل حقوقهم المدنية والسياسية، وتكريس مبادئ المساءلة والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، خاصة في التجارب التي عرفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
هناك موجات متعددة للانتقال الديموقراطي، لكن تبقى فترة منتصف السبعينات من القرن الماضي واحدة من الفترات التي شهدت تجارب مهمة في كل من اليونان وإسبانيا والبرتغال، كما سيشهد العالم عقب نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين، موجة أخرى من تجارب الانتقال، شملت هذه المرة دول أميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، كما عرفت العديد من الدول الأفريقية تجارب مماثلة لكن بنتائج متواضعة.
يقول غابرييل آلموند وبنغهام باول: “إن المبادرة من أجل التغيير السياسي يمكن أن تنبع من ثلاثة مصادر، من النظام السياسي نفسه أي من النخبة الحاكمة، ومن الجماعات الاجتماعية في البيئة الداخلية، ومن النظم السياسية في البيئة الدولية، وعادة ما تتفاعل هذه العناصر الثلاثة مع بعضها البعض”، عند تطبيق هذه الخلاصة على الحالة الليبية، تظهر لنا كثير من الأعطاب البنيوية التي تمثل عوائق حقيقية أمام تحقيق اختراق نوعي يفضي إلى انتقال ديموقراطي، ذلك لأنه يصعب توقع المبادرة من النظام السياسي أمام استمرار أزمة الشرعية بخصوص مختلف وحدات السيادة التي أفرزها حوار الفرقاء الليبيين منذ اتفاق الصخيرات، هذا الأمر ينطبق أيضاً على مختلف الجماعات الاجتماعية، وخاصة مؤسسة القبيلة التي راهن العقيد القذافي على تقسيمها وجعلها في حالة صراع مستمر، سواء بين القبائل أو داخل القبيلة الواحدة، وأثر ذلك ما زال قائماً في التقاطبات الجارية منذ أزيد من عقد، أما العامل الدولي، ورغم التحولات التي عرفتها مواقف عدد من القوى الدولية في السنتين الأخيرتين، وخاصة الرهان على مدخل الانتخابات لتحقيق عملية الانتقال الديموقراطي، فإنه بدا في الشهور الأخيرة بدون تأثير حاسم، إذ فشل المنتظم الدولي في فرض احترام إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، إذ كما كان متوقعاً، وتأسيساً على واقع الصراع وتوازن القوى في ليبيا، أعلن عن تأجيل تلك الانتخابات التي كان من المزمع تنظيمها في ليبيا في 24 دجنبر 2021، ففي الوقت الذي كانت فيه الأمم المتحدة ومعها طيف واسع من القوى الدولية تنظر إلى الانتخابات كمخرج أساسي من حالة الانقسام والصراع الذي تعرفه البلاد منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، كان أطراف الصراع في المعادلة الليبية يتمترسون في مواقعهم ويسعون إلى تحصين مكتساباتهم التي تم تحصيلها في زمن الصراع الناشئ في ليبيا بعد سقوط نظام العقيد.
تعقيدات المشهد الليبي جعلت موضوع الانتخابات يحظى بأهمية كبيرة في كثير من العواصم الدولية المعنية بالأزمة الليبية، خاصة تلك التي كان لها دور أساسي في معركة إسقاط نظام القدافي، بل إن البعض راهن على الانتخابات كمدخل لتجاوز واقع الانقسام الليبي الذي تمثل صورته الحالية استعادة للانقسام التاريخي الذي كانت تعرفه ليبيا، ولبناء توقعات واقعية عن مستقبل العملية السياسية في ليبيا.البلد خرجت من ديكتاتورية القذافي إلى جحيم الميليشيات، لتعود إلى ثنائية بنغازي وطرابلس، وتعيش اليوم على وقع انقسامات ربما تكون الأخطر في تاريخ الصراع منذ 2011، يظهر ذلك جلياً من خلال مواقف مختلف الأطراف من الترشيحات ذات الطابع المناطقي للرئاسيات وعدم القدرة على الحسم فيها، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية القانونية، فمن جهة تقتضي عملية الانتقال تكريس الاعتراف بالآخر لضمان التطبيع مع نتائج الانتخابات، ومن جهة أخرى هناك سؤال أخلاقي يتعلق بعدد من المرشحين، خاصة سيف الإسلام القذافي المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية.
ليبيا التي لم تستقر إلى اليوم، تعد أحد ثلاث دول الأكثر تقدماً في مؤشر الدولة الفاشلة سنة 2020، حسب المؤشر العالمي لقياس الدول الفاشلة FSI المعتمد من قبل صندوق السلام FFP، وذلك إلى جانب كل من الشيلي والموزمبيق، هذا المؤشر تتصدره اليمن كأكثر دولة فاشلة في العالم، وتتذيل الترتيب فيه دولة فنلندا، علماً أن ليبيا قد تصدرت دول العالم على مستوى ارتفاع المؤشر في العشرية الأخيرة بـ 25.8 نقطة، وتشير الإحصائيات أيضاً الى أن ليبيا سجلت نزوح 300 ألف ليبي منذ انهيار نظام العقيد القذافي، فما عرفته البلاد في العشرية الأخيرة يعد بكل تأكيد تقويضاً للاستقرار وفرص بناء توافقات وطنية، كما أنه يشكل خطراً، ليس فقط على مستقبل ليبيا، بل أيضاً يمس الأمن الاستراتيجي للدول المغاربية وبلدان حوض المتوسط، خاصة في ظل انتشار السلاح والمرتزقة الأجانب، وغياب مؤسسات تملك سلطة فعلية على كامل التراب، يضاف إلى ذلك اختلاف القوى الدولية والإقليمية ذات الصلة بالنزاع في ليبيا، لاعتبارات اقتصادية وسياسية متباينة.
لقد اغتصب القذافي السلطة وأنهى نظاماً ملكياً وحّد الشعب الليبي الموزع على القبائل والعشائر، فقد كانت الملكية تسير بخطى حثيثة على درب الديموقراطية، ولم يسجل عليها أي إساءة أو خيانة للشعب الليبي، بل لم تمضِ الملكية سوى فترة قصيرة، حيث كان الملك إدريس هو الملك الأول والأخير في تاريخ ليبيا، كما ألغى القذافي دستور المملكة الذي كان متقدماً في زمانه، وكان يمكن أن يوفر تربة خصبة لتطور ديموقراطي حقيقي، بجانب ثروة نفطية هائلة وعدد محدود من السكان مع موقع جغرافي في قلب الضفة الجنوبية للمتوسط، ومئات المواقع السياحية التاريخية التي أبادها، فهل يمكن للانتقال الديموقراطي أن يتحقق في ظل هذا الإرث التاريخي وفي ظل حاضر أكثر قتامة؟