جرب المغاربة سلاح المقاطعة، في إطار حركة التحرير الوطني، أيام كانت مناشير المقاومة السياسية الوطنية، تدعو لعدم استهلاك أنواع من السجائر، والمشروبات الكحولية، بل وإلى نوع من العصيان المدني، عبر الامتناع عن أداء الضريبة، في محاولة لزعزعة إدارة الحماية، وتوجيه ضربة لاقتصادها الكولونيالي.
هذه التجربة، وتجارب أخرى في سياقات أخرى مختلفة، على الرغم مما توفره من عناصر مهمة لفهم حملة المقاطعة التي نعيش اطوارها اليوم، فإن المطلوب، معرفيا وأخلاقيا، هو بذل مجهود فكري، لفهم هذه الظاهرة، التي لازالت، بالنظر إلى خصوصياتها العديدة، ظاهرة اجتماعية في طور التشكيل.
فالمقاطعة، بالنسبة لي، ليست موضوعا للمقاربة بمنطق من معها ومن ضدها، بقدر ما هي موضوعا للنقاش الفكري الرصين، ذلك أن كل المؤشرات المتوفرة تحمل على ترسيخ الاعتقاد بشأنها، بأن أجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد، كما قال الشاعر ناظم حكمت.
إن مقاطعة استهلاك منتوجات ثلاث علامات تجارية، هي تعبير عن فشل السياسات العمومية المتبعة في خلق شروط الإقلاع الاقتصادي، والاستجابة للضغوط الاجتماعية، عبر الرفع من معدلات التنمية البشرية، وترقية نوعية الحياة، حتى تكون أكثر مناعة لمواجهة مختلف الهزات…
وإذا كان ثقل الإكراه الاجتماعي حاضرا، في انشغالات الفاعلين السياسيين والاقتصاديين، ومحددا لمجالات وتوجهات الصراع بين القوى المتنافسة في المجتمع، فإنه من الطبيعي أن يؤدي تباطؤ النمو الشامل إلى تضرر الجماعات، بشكل يصبح فيه موقعها مغايرا، ويتخذ فيه تعبيرها عن الضرر الذي لحقها اشكالا مناسبة لمرحلة التطور المجتمعي، الذي تعايشه.
ان هذا ما يحملني على الاعتقاد أن للطبقة المتوسطة/ الوسطى دورا مهما، في تنشيط حملة هذه المقاطعة. فالوسائل التكنولوجية المستعملة في هذه الحملة، وشعاراتها المرتبطة بغلاء الاثمان وضعف القدرة الشرائية في مواجهة الطلب على الاستهلاك، وبمحاربة الريع والجمع بين السلطة والمال في تدبير الاستثمار، كلها عناصر دالة على فعل الطبقة الوسطى، التي استنفذت كل أسلحتها في مواجهة الهجمة الشرسة التي تعرضت لها بشكل ممنهج، منذ أن تفننت، أول حكومة لما بعد دستور 2011، في تطبيق إملاءات مؤسسات الائتمان الدولية، المغرقة في النزعة النيوليبرالية المتوحشة، في محاولة لترميم مخلفات الهزة العنيفة، التي احدثتها أزمة الرهن العقاري الأخيرة…
لقد كان طبيعيا، أن يكون للطبقة الوسطى، ودون الخوض في تعريفها ومحددات قياسها، رد فعل اتجاه تدابير المقايسة، والتقاعد، والزيادة في الضريبة، واختلال ضوابط المنافسة… التي أثرت سواء على الدخل، أو على مستوى الوظائف والأنشطة التي تشكل خليطها السوسيومهني، خصوصا إذا اعتبرنا أن أصحاب الملكيات الصغيرة وعدد من المهنيين والموظفين العموميين والانتلجانسيا، ينتمون، بحكم رأسمالهم الرمزي والمادي، لهذه الطبقة.
ورغم أن التفكير الماركسي، الذي يحكم على التاريخ نتيجة للصراع بين الطبقات، لم يولي أهمية كبيرة للطبقة المتوسطة، أو على الأقل ليس بمقدار ما اولاه لطبقتي العمال والرأسماليين، فإن تنبؤه بشأن تدمير الطبقة الوسطى بالكامل، كنتيجة حتمية لتطور الرأسمالية، يجعلنا ننتبه إلى أن اضمحلال هذه الطبقة يلعب دورا مهما في المواجهة المباشرة والنهائية بين طبقتي الأغنياء والفقراء…
والواقع أن تفاعل الاختيارات المتبعة، منذ فشل مقاربة إعادة الهيكلة عبر التقشف، وفتح الاقتصاد الوطني أمام الاستثمار الاجنبي، في ظل نظام معولم للسوق والتجارة الحرين، أنتجت، بقطع النظر عن مساهمتها في تشكيل وإعادة تشكيل الطبقة المتوسطة، عن حركتين متنافرتين، الأولى في اتجاه الأسفل عبر انزلاق اغلب مكونات هذه الطبقة إلى الاسفل، بفعل تدمير قدرتها الشرائية وإنهاك ضمانات أمنها الاجتماعي، والثانية نحو الأعلى عبر رفع فئة قليلة منها إلى مراكز الطبقة الفوقية للملاك الكبار والرأسماليين…
إن الاستئناس بهذا التحليل، في ضوء ما بلغته العلوم الاجتماعية من نتائج، بخصوص إدماج عناصر الرأسمال اللامادي في التنمية، يجعلنا بدون شك، نعي أن هناك عوامل جديدة، لا تقتصر فقط على مستويات الدخل والتعليم والانفاق في تحديد وعي الطبقة المتوسطة، بل كذلك، تأثير عوامل أخرى، حديثة، وفي مقدمتها وفرة وسرعة انتقال المعلومة، في تشكيل وعي الطبقة المتوسطة بنفسها، وفي الوعي بتناقضاتها، وانقساماتها الداخلية، وطرق مواجهة تهديداتها وازماتها.
ومن هنا تتحدد ملامح البحث في المقاطعة كسلاح جديد للمقاومة المدنية، بمختلف نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في زمن تتفاعل فيه إرادة النمو والإقلاع الاقتصادي بمعيقات مناخ الاستثمار ومقومات الاندماج الجهوي والعالمي، بنفس الحدة إن لم تكن أكثر، بتفاعل اكراهات التدبير السياسي في عناصره المرتبطة بالسياسيين والتقنوقراط والفاعليين باسم مختلف القوى الحية في المجتمع.