لا توجد الصدفة في السينما
رحل عباس كياروستامي (1940- 2016) فشرع عشاق السينما يسترجعون أفلامه بحثا عن أكثر لقطاته تأثيرا، وعن طريقة العمل التي جعلته يحصل على اعتراف عالمي غير مسبوق، وما الذي يمكن قوله عن المخرج الكبير غير رثائه بكثرة الاستعارات وسرد أفلامه والجوائز التي حصل عليها..
تميز كياروستامي بأفلامه، وفيها أولا حبكة متقشفة بلا ثرثرة كما في فيلم “طعم الكرز”، وفيه نرى رجلا قرر الانتحار ويبحث عن شخص يدفنه بعد انتحاره.. المتفرج هو الذي يضيف السؤال: كيف أصبح الدفن أهم من الحياة؟ وكيف يمكن لطعم الكرز أن يغير النظرة إلى الكون؟ ..
ثانيا: قُدرات إخراج مفكّر فيها، مذهلة معدة مسبقا.. يقول عبد الفتاح كيليطو: “النص الأدبي هو الذي يتضمن النظرية التي أنتجته”، وهو ما ينطبق على أفلام كياروستامي، خاصة لأنها مُفكر فيها كثيرا، سواء أعجبت الجمهور العريض أم لا.. يقول المخرج: “لا توجد الصدفة في السينما”.
ثالثا: تتميز أفلام كياروستامي بسرد مضغوط وموجز كالشعر؛ لذا نرى شجرة وحيدة في هضبة، طفلا يسأل عن منزل صديقه ويجيبه مواء قطة، تفاحة تتدحرج.. في الدقيقة 108 يصور كيروستامي واحدة من أروع لقطاته: يغادر الأب الذي كان يبحث عن موجة بعيدة في “الراديو”، ينهض الطفل، يتجه نحو الباب، فيظهر الجد يُسبّح على موجة ربانية، بينما يتجه الطفل إلى عمق الكادر ليقصد صديقه.
هذه سينما شعرية لا تفرط في تماسك الحكي..ولهذا جذور، فالمخرج ينحدر من ثقافة ذات تقاليد سردية وشعرية عريقة، ثقافة تؤمن بثنائية الخير والشر، وترجع العالم إلى أصْلين، هما النور والظلمة.. السينما نور وظل يتناوبان كالليل والنهار، وقد صارت صورة كياروستامي ظلا كبيرا، وبرحيله سيتحرر المخرجون الإيرانيون الشبان من ظله، كما تحرر اليونانيون من ثيو أنجيلو لولوس بعد رحيله؛ لأنه كان بسبب ضخامة تأثيره يرمز وحده إلى السينما اليونانية.
ومع الشعر هناك سرد متماسك يخلق توترا.. يستخدم كيروستامي المكان المنطقي لزيادة التوتر، وتلعب البساطة دورا قويا في التأثير على المتفرج الذي يتماهى مع الطفل، ويعيش توتره هذا في أول فيلم لكيروستامي، كتبه مؤلف قصص أطفال: طفل ترسله عائلته لجلب الخبز فيجد كلبا في الطريق…أثناء التصوير كانت علاقة المخرج متوترة مع مدير التصوير، الذي أراد أن يملي عليه موقع الكاميرا وسلم اللقطات… كانت لدى كياروستامي وجهة نظر تخصه، لذا لا يستنسخ.
بفضل التقطيع وزاوية النظر، ما إن ترى أفلام كياروستامي حتى تعرف أن هذه سينما وليست تلفزيون، حتى لو صوّر بكاميرا رقمية صغيرة.. بفضل كيروستامي أدركتُ الفارق بين الإخراج للتلفزيون والكتابة والإخراج للسينما…
رابعا، فلسفة مكان بارزة تظهر في الطرق التي تتقاطع كحيوات… يعشق كيروستامي الدروب الملتوية، نراها في فيلمه القصير “علي والخبز”، حيث الطفل يخدم أمه ويتبع علبة يقذفها ويمر بها في دروب متعرجة إلى أن يعترضه كلب، يقف، ينتظر، ثم يتبع عجوزا… صراع خفي بين الكلب والطفل قبل أن يأمن كل واحد منهما للآخر. ورغم الخوف يتم الطفل مهمته.. واضح أن حس الواجب لدى الطفل أعلى من الكبار، وقد تعرض للعقاب لأنه أوصل الدفتر إلى صديقه.
في “الريح ستأخذنا” نرى طريقا ثعبانية من قمة جبل، وفي فيلم “نسخة طبق الأصل” ينتقل كياروستامي إلى دروب المدينة العتيقة الجبلية في توسكان.
في تفسير صلة السينما بالمكان يقول بيتر بروك إن الناس يتصورون المخرج وكأنه مصمم ديكورات منازل (النقطة المتحولة ص 15).. يتصورون المخرج كمهندس معماري. توجد صلة بين الهندسة واستكناه فلسفة المكان لدى كياروستامي، وهو مهتم بالهندسة والديكور.
في لقطة طويلة من عشر دقائق نرى توسكان تنعكس على زجاج سيارة، حيث يتواصل الحدث والمكان واللقطة…وتعمد اللقطة المشهد (PLAN SCEQUENCE ) إلى تقليل المونتاج وترك اللقطات كما صورت ليمر المكان والزمن فعلا.
كيروستامي شاعر حساس تجاه المكان، وقد تجلت هذه الحساسية منذ فيلمه القصير الأول سنة 1970؛ بل إنه في فيلم “نسخة طبق الأصل” 2010 صور الأمكنة قبل حضور الممثلين.. وقد قلت جمالية الأفلام التي صورها خارج إيران. حساسية الشعر للمكان والزمان موضوع قديم، حتى إن الثعالبي في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه خصص فصلا لـ”تأثير الطباع والأمكنة في رقّة الشعر وجفائه”.
خامسا، قوة خطاب كياروستامي، حتى إن مداخلاته تحظى بمتابعة كبيرة.
لقد أدهشني أول فيلم شاهدته له، والذي أدهشني أكثر كثرة المعجبين به في أوساط نقاد السينما الذين لا يسلمون لمخرج بالعبقرية إلا نادرا..قوة كيروستامي تكمن في أنه يتحدث عن السينما، ويُنظّر لها، وهذا ما يحبه مدراء مهرجان كان ومحررو مجلة “دفاتر السينما”، وهي موقع وهيكل الإخراجle mise en scène . ومن أفضل ما نشر بالعربية عن المخرج “عباس كياروستامي سينما مطرزة بالبراءة”، من ترجمة وإعداد البحريني أمين صالح. وفي هذا الكتاب يرد المخرج على من يرى أن حكايات أفلامه بسيطة قائلا: “إن البساطة لا تشبه السهولة”.
يقول أيضا في هذا الكتاب: “من الأفضل أن نتحدث فقط عن الأفلام التي نحبها”، ويضيف: “قد نكون مختلفين في ما يتصل بلون بشرتنا، لكننا نتألم من أوجاع الأسنان نفسها”؛ وهذا يعزز حقيقة كم نحن متشابهون كبشر، بغض النظر عن القبائل والمذاهب.
سبق لي أن التقطت صورة تذكارية مع كياروستامي في مهرجان مراكش 2009 وشعرت كأني تزودت بطاقة سينمائية مشعة.