•الياس خوري
القرار الذي اتخذه البرلمان الاتحادي الألماني، بإجماع الحزبين الكبيرين، باعتبار حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (BDS) معادية للسامية، ذكّرني بحكايتين: حكاية شخصية كنت شاهداً عليها في البندقية عام 1999، خلال مشاركتي في مؤتمر عن الثقافة والإعلام، وحكاية أدبية كتبها الروائي الألماني غونتر غراس في عمله الكبير: «الطبل».
حكايتان لا يربط بينهما سوى أنهما كانتا انعكاساً للأثر المدمّر للوحشية البشرية الذي صنعته المحرقة أو الهولوكست النازية في الروح والوعي.
شارك في مؤتمر البندقية الكاتب الإسرائيلي يورام كانيوك. كان الرجل يمتلك كل مقومات العصابية المتجسّدة في شخصية إنسان يبحث عن معنى لوجوده المعقّد. يهودي تزوج من مسيحية أمريكية وانتهى به الأمر إلى طلب شطب انتمائه الديني كيهودي عن هويته الإسرائيلية احتجاجاً على القوانين الإسرائيلية، ومقاتل في قوات النخبة «البالماح» التي تتحمّل مسؤولية التطهير العرقي خلال حرب النكبة في الكثير من المناطق الفلسطينية، كما شارك في معركة القسطل التي كانت نقطة تحول لمصلحة الجيش الإسرائيلي في حرب 1948، حيث سقط القائد عبد القادر الحسيني شهيداً، وروائي أنهى حياته الأدبية بسيرة عن حرب 1948.
لم أكن قد قرأت شيئاً للرجل، وهذا بالطبع خطأ مني، فأنا لم أكن أعرف مُسبقاً أنه سيشارك في المؤتمر، لكنه شكّل نموذجاً للصهيوني شبه اليساري، المصاب بالرعب من الفكرة الفلسطينية.
تكلم كانيوك في المؤتمر عن غيتو البندقية الفارغ من سكانه اليهود، ووجه الكثير من الاتهامات إلى العنصرية الأوروبية التي صنعت كارثة يهود أوروبا خلال مرحلة جنون «الحل النهائي».
في مداخلتي تحدثت عن التواطؤ المعلن بين الحلم الكولونيالي الأوروبي الذي تلاشى، والكولونيالية الصهيونية التي افترست أرض فلسطين، محللاً الصمت الغربي المريب تجاه معاناة الشعب الفلسطيني.
بعد المداخلتين، التفت كانيوك إليّ وكلّمني بعصبية واضحة وقال: «اسمعني جيداً، أستطيع أنا الإسرائيلي أن أقول هنا ما أشاء»، وروى لي أنه يستطيع أن يجلس على المنصة في ألمانيا وأمام جمهور ألماني ويفترس طفلاً فلسطينياً، «لا يحق لهؤلاء الألمان توجيه أي نقد لي، فبعد كلّ الذي فعلوه بنا فقد هؤلاء العنصريون الحقّ في إعطائنا دروساً في الأخلاق».
صدمني كلام الرجل، «تفترس! هل أنت جاد» قلت.
«أتكلم بشكل مجازي»، أجابني، «فهؤلاء لا يحق لهم توجيه أي لوم لنا».
في البداية، لم أستوعب معنى كلمة «مجازي»، لأنني رأيت بعيني الثالثة طفلاً فلسطينياً يجري قتله أمام الناس.
«ما بالك، لا تخف مني، أنا لست مجرماً، أنا كنت جندياً في البالماح خلال حرب الاستقلال، ولم أقتل إلا خلال الحرب»، قال.
قلت له إنني لم أعد أستطيع التمييز بين المجاز والحقيقة، «مجازكم صار حقيقة، أنظر ماذا فعلتم بالفلسطينيين».
وأدرت ظهري ومشيت.
لا أريد أن يساء تفسير ما أقول، فليس هدفي اتهام كاتب إسرائيلي بأنه قاتل، رغم اقتناعي بأن الصمت عن القتل يجعل من الصامت شريكاً في الجريمة، بل أردت أن أوضح مدى قدرة الصهاينة على التلاعب بالشعور الأوروبي بالذنب.
لا أريد أن يساء تفسير ما أقول، فليس هدفي اتهام كاتب إسرائيلي بأنه قاتل، رغم اقتناعي بأن الصمت عن القتل يجعل من الصامت شريكاً في الجريمة، بل أردت أن أوضح مدى قدرة الصهاينة على التلاعب بالشعور الأوروبي بالذنب، إلى درجة تصير فيها أوروبا عاجزة عن أن تزن مسألة احتلال فلسطين والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين بالميزان نفسه الذي تستخدمه في معالجة القضايا المشابهة في العالم.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، كما قالت العرب، فقد أعادتني مسألة الشعور بالذنب إلى «حانة البصل» التي تخيّلها غونترغراس في روايته.
تقول الرواية إنه تمّ تأسيس حانة في ألمانيا لا تقدم الخمر، بل تستعيض عنه بالبصل. يدخل الألماني إلى الحانة فيُعطى صحناً وسكيناً، ويكون عليه تقشير البصل الذي وُضع في صحنه. والبصل يثير غدد العين، كما نعلم، مُجبراً دموع روّاد الحانة على التساقط.
خُصصت هذه الحانة لدموع الندم والشعور بالذنب، على كل ألمانية وألماني أن يدخل إلى حانة الدموع، حيث يلتقي ببصل خطاياه.
عندما قرأت هذه الحكاية أصبت بالذهول، فخيال الروائي قاده إلى ما بعد الواقع، عبر تحويل الشعور بالذنب إلى ممارسة يومية.
هذا في الأدب، أما الواقع السياسي فيقدّم رؤية مختلفة، فمنذ صفقة التعويضات الألمانية الشهيرة عن جرائم الهولوكست، التي أبرمها بن غوريون مع المستشار الألماني أديناور، تحولت إسرائيل إلى بصل ألمانيا الاتحادية، من الجرارات الزراعية زمن بن غوريون إلى الغواصات زمن نتنياهو، وطقس البصل الألماني مستمر.
هذه المعادلة الجديدة تريح الطرفين، الصهاينة يتصرفون بصفتهم ورثة ضحايا المحرقة النازية، والألمان يُكفّرون عن ذنوبهم وعملهم البربري بتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لدولة إسرائيل.
حتى الآن كان البصل الألماني مادياً، أي أن الدولة الألمانية وجدت في المساعدات التي تقدّمها لإسرائيل مخرجاً يرمم الأخلاق المثلومة بالعنصرية النازية.
لكننا اليوم أمام نوع جديد من البصل، وهو بصل أخلاقي، فقرار اعتبار المقاطعة شكلاً من أشكال اللاسامية، لا يمسّ الفلسطينيين وأصدقاءهم في العالم فقط، بل يمس الأخلاق والحريات الفردية والجماعية في أوروبا.
يحجب هذا القرار حقيقة دخول دولة الاحتلال في مرحلة أبارتهايد مُعلن، بغبار موقف أجوف من لا سامية لا علاقة لها بحملة المقاطعة. ويُعطي صكّ براءة لدولة قائمة ليس على طرد السكان الأصليين، أصحاب البلاد من أرضهم فقط، بل على نظام تمييز عنصري مُحكم، اعتقد العالم أنه انتهى مع سقوط دولته البيضاء في جنوب أفريقيا.
البصل الألماني الجديد يهدف إلى إثارة غبار من الدموع يمنع الناس من رؤية الحقيقة الإسرائيلية العارية، محوّلاً شعوراً أخلاقياً بالعار من الممارسة النازية، إلى غطاء يبرر ويدعم سياسة العار العنصرية التي تُمارس في فلسطين.
كما أنه يشكّل اعتداءً جوهرياً على حرية التعبير، وعلى حق الشعوب المضطَهدة والخاضعة لاستعمار كولونيالي في بناء حركة دعم دولية لقضاياها العادلة.
هل يعتقد المشرعون الألمان أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي سوف يوقفها هذا القرار، أو أن أصحاب الضمائر في العالم سوف يتوقفون عن دعم الفلسطينيين ومقاطعة دولة الاحتلال؟
إذا كانوا يعتقدون ذلك فهذا يعني أن البصل قد أعمى عيونهم عن رؤية الحقيقة الأخلاقية الإنسانية، التي تشكّل اليوم العمود الفقري للنضال ضد بربرية العنصريين التي تجتاح العالم.