في حياتنا كثيرا ما نتعامل مع اشخاص عاديين بشكل عابر وتلقائي، وسرعان ما ننساهم ويضيع من الذاكرة ما جمعنا بهم من مواقف أو تعاملات، وبالمقابل أحيانا نصادف علي النقيض أشخاصا متميزين يحفرون مكانتهم في ذاكرتنا وتستوقفنا طبيعتهم و سلوكهم، وتفرض علينا مسيرتهم وخبرتهم أن نتوقف أمامهم لنتأمل ببفهم واحترام كبيرين تجاربهم محاولين أولا أن نستوعبها، وثانيا أن نتعلم منها بعض العبر و الدروس .
من هذا النموذج الثاني صديق عزيز لطيف جمعتني به الأقدار أول مرة في صيف عام 2015 بمدينة خريبكة المغربية حيث دعيت مع صديق مصري للمشاركة بمنتدي الآفاق للثقافة والتنمية بتلك المدينة الجميلة بدعوي من رئيسة المنتدي الأخت والصديقة ياسمين الحاج ، وكان الصديق الجزائري عبدالباسط شرقي ، أو شرقي كما كان الجميع يناديه ، صديقا عبر الانترنت لزميلي الصحفي المصري الذي رافقني الي خريبكة ، وعرفني عليه ضمن كوكبة من الأصدقاء مازالت تجمعنا بهم أواصر المحبة والاحترام والحمد لله، وفي ذلك فضل كبير لياسمين الحاج ومنتدي الآفاق للثقافة والتنمية الذي أصبح بمثابة جامعة عربية صغيرة، للثقافة والتعارف بالمغرب.
تعرفت علي شرقي بملامحه الشابة المرحة البريئة،وجسده الممتليء قليلا ، وقامته غير الطويلة،وعرفت أنه في المغرب ليكمل دراساته كباحث للدكتوراة في مجال التاريخ،وربما كان ذلك التعارف بصديقي شرقي وبالصحفي السوداني المخضرم الأستاذ طلحة جبريل،أحد أهم أقطاب الصحافة في تاريخ المغرب، أفضل ما فعله معي ذلك الزميل المصري. وفي ذلك اليوم كنا عائدين في حافلة صغيرة بعد زيارة لمدينة أبي الجعد بنواحي خريبكة استمتعنا فيها بأمسية للإنشاد الصوفي،وكان معنا بتلك الحافلة الشاعر الفلسطيني ركاد خليل،والشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بلمختار، وقضينا الطريق بالكامل في الضحك والسرور،وكان لحكايات صديقنا شرقي و آرائه وتعليقاته المرحة والصادمة أحيانا،وطريقة حديثه الممتعة فضل كبير في حالة المرح التي سيطرت علينا وتغلبنا بها علي مشقة الطريق من أبي الجعد الي جريبكة، ومنذ تلك اللحظة في عام 2015 استمر تواصلي عبر الانترنت مع صديقي شرقي إلي أن التقينا مرة أخري في سبتمبر من العام الماضي حيث سافرت للمغرب للعمل مراسلا لمؤسسة الأهرام الصحفية ، وكان صديقي الجزائري علي وشك إنهاء دراسته ومناقشة رسالته في الدكتوراة.
كنت اسمع من صديقي الصحفي المصري بعض التفاصيل العابرة عن صديقنا المشترك د. شرقي ودراسته ،وحياته وكيفية تدبيره لأمور معيشته في المغرب ظل صعوبات كبيرة في هذا المجتمع الذي تطغي عليه وضعية طبقية كفيلة بسحق أي طموح ساذج في حياة طبيعية، ومدمرة لكل الآليات الانسانية الطبيعية علي البقاء، لكن عندما التقيت به عن قرب،ورافقني كثيرا طوال تلك الرحلة اكتشفت كيف أن عبدالباسط شرقي ليس شخصا عاديا، وإنما هو كتاب للحكايات، وكيف أن السنوات السبع التي قضاها هذا الجزائري من حياته في المغرب لتحقيق هدفه في الحصول علي شهادة الدكتوراة تشكل مسيرة نضالية من أجل البقاء يجب أن تدرس، ففيها الكثير مما يستحق التوقف، ومما يمكن تعلمه من آليات الصمود والبقاء في مجتمع الحياة فيه شديدة القسوة علي أهله فما بالنا بمغترب جزائري آت للدراسة دون أي سند مالي من الأسرة في وطنه الأم، فتفاصل معيشة صديقنا وسكناه، وتنقلاته بين المدن المغربية ناهيك عن تفاصيل الحياة الدراسية له بالمغرب يحتاج سرد تفاصيلها طوال السنوات السبع لأكثر من مؤلف ضخم بل غالبا سيحتاج لأكثر من كتاب ليروي فيه تفاصيل هذه السيرة.
منذ انهي رسالته الجامعية وحصل علي الدكتوراة، وأنا الح عليه بأن يشرع في الكتابة عن تجربته منذ وصوله من الجزائر الي المغرب وهو لايكاد يعرف عنه، أي شيء ولا يملك فيه أية علاقات ، وكيف استطاع أن يعيش هناك كإمبراطور لا ينقصه شيء رغم أنه في اغلب الأوقات لا يمتلك أي شيء، في معايشته للمغاربة مر بالكثير من المعاناة، حقق العديد من الانتصارات لكنه يخشي أن ينزلق لما يمكن اعتباره تشهيرا أو إساءة للبعض في سياق حكاياته ، طلبت منه أن يكتب دونما تشهير، فقط مجرد اشارات، فالإشارات المختصرة تكفي، وقت له لا تضع لنفسك محددات وقيود قبل ان تشرع في الكتابة، يمكن لشرقي أن يحكي لنا عن الكثير مما مر به،، عن النساء، وعن الرجال والرجولة، عن ما صادفه مرارا من الكرم ومن الشح، عن احزانه ومواقفه الصعبة وكيف خرج منها، وللمقارنة فقط كانت اطول فترة قضيتها كصحفي مراسل بالمغرب هي ثلاثة أشهر وخمسة أيام، رغم انني اظن ان لي علاقات قوية بالمغرب من الدار البيضاء الي طنجة وتطوان، انفقت في تلك الفترة مبلغ كبير من راتبي المحول لي من مصر، ومن مدخراتي الخاصة، رغم تدبيري المحكم واقتصادي الكبير في الانفاق، بينما استطاع عبدالباسط شرقي أن يعيش بالمغرب سبع سنوات كاملة بأيامها ولياليها الطويلة دون أن موارد منتظمة معلومة، اليس هذا اعجازا؟؟ من يعرف المغرب وعاش فيه يعرف أن ذلك ليس أمرا سهلا مطلقا… وخلال مسيرته بالمغرب قابل شرقي صعاليك،ووزراء، وشعراء،مسئولين سابقين وحاليين،مغاربة وجزائريين،صحفيين، ودبلوماسين، شعراء،وأكاديميين، قابل قوادين،وعاش مع متصوفة،جالس نبلاء وعظماء ، نزل ضيفا في افخم الأوتيلات، وسكن في أماكن شديدة التواضع،دعي إلي ولائم فخمة، وفي بعض المرات كان يكتفي بأكل الخبز والحليب،كما حكي لي،وكان يعرفه حتي السماسرة و الشحاتين في شوارع الرباط كما رأيت ذلك بعيني، فقد تجولت في احياء الرباط ونواحيها كثيرا معه فقد كان يعرف كل مكان تقريبا، وكان يبدو أن الجميع هناك يعرفونه، في العاصمة، وعندما وصلت الي هناك واتصلت به لنرتب أول لقاء لنا بعد ما يزيد علي ثلاث سنوات كنت بالكاد قد عرفت اسم الشارع الذي أتواجد به، وكنت جالسا علي مقهي بأحد أركان شارع محمد الخامس في وسط المدينة بالرباط، كنت قد اعتدت الجلوس عليه دون أن أعرف اسمه،اذ لم يكن عليه لاقتة واضحة، وطلب أن يعرف أين أنا فسألت النادلة بالمقهي عن اسم المكان فقلت له انه مقهي صغير يسمي موناليزا، وبعد نصف ساعة تقريبا كان شرقي أمامي بشحمه ولحمه .. ليحكي لي أنه يعرف هذا المقهي وأن صاحبه السابق كان ليبيا وكان صديقا له.… وفي هذا الوقت الذي كان البعض يتهربون من لقائي معهم، وكنت اعذرهم لسببين،أولا لمعرفتي بصعوبة الحياة هناك وانشغالاتها وتكلفتها، ثانيا لأنني لم أكن انتظر من أي شخص هناك أي شيء…. جاء شرقي إلي مسرعا وكان معه كيس ورقي به بعض قطع المخبوزات المحلاة بالعسل، يا الله….هذا الجزائري الذي التقيته مرة واحدة فقط ،لم تنسه أية صعوبات وأي ظروف أن يحاول في أول لقاء بيننا بعد بضع سنوات القيام بما يلزم من الواجب،وإن قل، مع صديق مصري قديم ..
كان شرقي فاعلا أساسيا في تنظيم لقاءات وندوات لعدة منتديات و جهات مغربية لها صبغة محلية ، وأقليمية، ودولية ، يمكن أن يقصده الجميع بحثا عن أي شيء، وكل شيء ابتداءا من المساعدة في ايجاد سكن لمغترب ، الي المساعدة في البحث عن فرصة للتسجيل في برامج الماستر والدكتوراة بالجامعات المغربية للوافدين من مصر ، أو الجزائر، و موريتانيا، واليمن، وفلسطين ، وحتي كوت ديفوار ،،، كوادر جزائرية أو عربية يمكنها المشاركة في منتديات وفعاليات ثقافية واعلامية بالمغرب ستجد أن لشرقي يد ودور ما في التواصل مع تلك الكوادر وتنظيم مشاركتها ، دورات تكوينية، وحلقات دراسية متخصصة يمكن ان تقام في أماكن ومدن عديدة بالمغرب يمكن لشرقي بسهولة أن يساعدك في حضورها أو تأطيرها، كتب ودراسات ، وأبحاث متخصصة ساعد شرقي في تنسيقها أو الاسراف عليها أو المشاركة بها .
تجولت في احياء الرباط ونواحيها كثيرا مع شرقي الذي كان يعرف كل مكان، وكان يبدو أن الجميع هناك يعرفونه، بعض اصدقائي من المغاربة من الرباط،و طنجة،ومراكش، وفاس، وخريبكة، والقنيطرة،لايعرف بعضهم بعضا اكتشفت أن الكثير منهم تجمعني معهم صداقة أو معرفة ما بعبدالباسط شرقي… فربما التقاه أحدهم في نشاط ساهم فيه هنا، أو فعالية كان له دور في تنسيقها هناك .
صحيح أن المغرب كبلد يفتح أبوابه رسميا للأشقاء العرب للدراسة أو العمل في بعض المجالات دون مشاكل تعجيزية ، وهذا ما أتاح لشرقي التواجد للدراسة دون تكلفة، لكن تبقي تفاصيل الحياة اليومية من مطلع الشمس الي مغربها تحد ضخم للمواطنين وللمغتربين ،ومن هنا تنبع قيمة وعمق ما يمكن أن نتعلمه من فنون العيش والبقاء من خلال تجربة …السيد شرقي.
ايمن عبدالعزيز- صحفي مصري
aymanabdelaziz73@yahoo.com