اسماعيل كايا / اسطنبول
لأول مرة بشكل علني، فجّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قنبلة من العيار الثقيل، عندما أعلن أن لدى بلاده طموحات بامتلاك أسلحة نووية، فاتحاً الباب واسعاً أمام التساؤلات حول طموحات تركيا بالملف الأخطر والأكثر تعقيداً في المنطقة والعالم خلال السنوات الأخيرة.
وبالدرجة الأولى، لا يعرف ما إن كانت تصريحات أردوغان تأتي في إطار إظهار ازدواجية المعايير التي يتبعها الغرب اتجاه تركيا، أم أنها تعبر عن وجود نية حقيقية لدى تركيا بالسعي لامتلاك أسلحة نووية وهو الأمر الذي لم تجاهر به سابقاً على الإطلاق.
في الشق الأول كان يتعلق الأمر بإظهار ازدواجية المعايير عندما تحدث عن منظومتي باتريوت وS400 ولاحقاً عن رفض أمريكا بيع تركيا القنابل الذكية، ولكنه انتقل إلى خطاب مختلف عندما شدد على أن بلاده لن تقبل بهذه المعادلة (معادلة امتلاك كل الدول الكبرى أسلحة نووية ورفض امتلاك تركيا لها)، وهو ما يؤكد تقصده إطلاق هذه الإشارة الكبرى للعالم.
لكن في المقابل، ما يصعب تحليله في هذه المرحلة، هو معرفة ما إن كانت هذه الإشارة أطلقت للمناورة وبهدف الضغط على الناتو أو الولايات المتحدة في بعض الملفات المتعلقة بالأسلحة والأنظمة الدفاعية، أم أنها إشارة حاسمة بإعلان بدء تركيا مساعي لامتلاك أسلحة نووية.
وقال أردوغان في خطاب أمام مؤتمر للحزب الحاكم، مساء الأربعاء: “بعض الدول تمتلك صواريخ برؤوس حربية نووية، ليست واحدة أو اثنتين، لكنها تقول لنا إنه لا يمكننا أن نمتلكها، وهذا ما لا يمكنني قبوله”، وأضاف: “لا توجد دولة متقدمة في العالم لا تمتلكها”، وتابع: “إسرائيل على مقربة منا وكأننا جيران. إنها تخيف (الدول الأخرى) بامتلاكها لهذه الأسلحة. لا يمكن لأحد أن يمسها”.
وطوال العقود الماضية، التزم الخطاب الرسمي التركي بالتأكيد على معارضة سباق التسلح وامتلاك أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية، كما وقّعت أنقرة على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1980، ووقّعت معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية عام 1996 والتي تحظر أي تفجير نووي لأي غرض. لكنها في السنوات الأخيرة بدأت جهودا واسعة من أجل إقامة مفاعلات نووية “سلمية” للحصول على الطاقة الكهربائية ووقعت اتفاقيات مع روسيا واليابان لبناء عدة مفاعلات نووية في البلاد.
وفي أبريل/نيسان من العام الماضي، وضع أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين حجر الأساس لبناء محطة “أق قويو” النووية في ولاية مرسين جنوبي تركيا والتي يتم إنشائها من قبل شركة “روساتوم” الروسية بموجب عقد جرى توقيعه عام 2010 حيث تتكون المحطة من 4 وحدات بقدرة إنتاجية للطاقة تبلغ 4 آلاف و800 ميغاواط، ومن المتوقع أن تلبي نحو 10% من احتياجات البلاد للكهرباء، وضغطت تركيا من أجل إنهاء المشروع خلال 5 سنوات من تاريخ بدء العمل فيه، أي بحلول عام 2023.
كما أعلنت تركيا عن مشروع محطة نووية أخرى في محافظة سينوب على البحر الأسود شمالي البلاد وذلك بالتعاون مع شركات يابانية على أن يتم افتتاح المرحلة الأولى من المشروع عام 2023، وفي غياب الإعلان الرسمي، تقول مصادر إعلامية إن المشروع تعثر بسبب الصعوبات الاقتصادية التي مرت بها البلاد في العام الأخير.
ويقول كتاب أتراك مقربون من الحكومة، إن أردوغان يستشعر حاجة البلاد بشكل مستمر لأنظمة دفاعية وأسلحة رادعة في ظل التغيرات الكبيرة التي تشهدها المنطقة في السنوات الأخيرة، والتحولات في السياسة الخارجية التركية مع الدول الكبرى في العالم.
وتعتبر الخلافات المتصاعدة بين أنقرة وواشنطن وابتعاد تركيا المتزايد عن حلف شمال الأطلسي، أكبر محركات التوجه التركي الجديد، لا سيما في ظل اتهام تركيا للحلف بأنه لم يقف إلى جانبها ولم يدافع عنها أمام التحديات التي واجهتها في الأزمة السورية، وعقب إسقاط الطائرة الروسية على الحدود مع سوريا، وهو ما ولّد قناعة بأن الحلف لن يكون إلى جانب تركيا في حال تعرضت لأي هجوم كبير أو تحديات أمنية ضخمة على غرار الأزمة السورية، وهو ما ولّد أيضا قناعة راسخة بضرورة تعزيز النظام الدفاعي والردعي لتركيا، وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الحلف.
إلى جانب ذلك، يغذي هذا التوجه، الطموحات النووية المتزايدة في المنطقة، حيث تتمسك إيران ببرنامجها النووي، والخشية من امتلاكها أسلحة نووية في أي وقت، وحديث السعودية المتزايد عن إمكانية السعي للحصول على السلاح النووي لا سيما في ظل تقاربها المتزايد مع باكستان، ومساعي الإمارات ومصر لبناء مفاعلات نووية لا يعرف ما إن كانت ستبقى في إطارها السلمي أم ستتحول إلى امتلاك السلاح النووي في وقت لاحق.
يضاف إلى ذلك، تصاعد التوتر بين الهند وباكستان، وهما قوتان نوويتان، والخشية من وقوع صدام بينهما، وإمكانية وقوع صدام بين واشنطن وطهران في ظل الضغوط الهائلة التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الأخيرة، وخشية من وقوع صراع بين دول الخليج وأمريكا من جانب، والجارة إيران من جانب آخر.
وقبل نحو عامين، كلف البرلمان التركي الجهات البحثية التابعة له بالقيام بدراسة عالمية واسعة حول الأسلحة النووية في العالم، وذلك عقب تزايد تهديد احتمال اندلاع مواجهة نووية في العالم على خلفية الأزمة المتصاعدة بين واشنطن وكوريا الشمالية التي أجرت سلسلة تجارب على تطوير قنابل نووية في ذلك الوقت.
الدراسة التي نشرت بعض أجزائها العديد من الصحف ووسائل الإعلام التركية، كانت قد أكدت أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تحتفظ بجانب من أسلحتها النووية وقاذفاتها الاستراتيجية على الأراضي التركية، في أحدث تأكيد لمعلومات تتعلق بهذا الملف.
وأوضحت الدراسة أن الولايات المتحدة قامت أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي بنشر أسلحة نووية تابعة لها في العديد من الدول في أوروبا والتي كانت على علاقة جيدة معها، ومن هذه الدول تركيا. مشيرة إلى أن جزءا من الأسلحة النووية الأمريكية التي نشرت في تركيا عام 1960 ما زال موجودا في قاعدة إنجيرليك التركية حتى اليوم، وتشمل قرابة 50 قنبلة نووية من طراز B61 وقاذفات استراتيجية قادرة على حملها لمسافات طويلة.
وقاعدة إنجيرليك الجوية تعتبر من أبرز ملفات الخلاف بين واشنطن وأنقرة التي هددت في أكثر من مناسبة بإغلاق القاعدة أمام الجيش الأمريكي. وقال كبار المسؤولين الأتراك في تصريحات مختلفة إن القاعدة تركية والجيش الأمريكي يستخدمها، لكن السيادة الكاملة تبقى لأنقرة عليها وتمتلك قرار إغلاقها. وبالتالي فإن أي تصاعد للخلافات بين أنقرة وواشنطن يمكن أن يؤدي لإغلاق القاعدة وسحب الأسلحة النووية الأمريكية منها.
وفي وقت سابق، نشر مركز أبحاث تركي دراسة توقع خلالها وجود 90 قنبلة نووية في قاعدة إنجيرليك الجوية في مدينة أضنة، لافتاً إلى أن 50 من هذه القنابل تدار من قبل الناتو والولايات المتحدة، وأن أنقرة تمتلك التحكم بـ40 منها، لكن هذه المعلومات يصعب التأكد من دقتها من مصادر مستقلة أو رسمية كونها تبقى في إطار السرية التامة.
وفي حال قرر أردوغان السعي للحصول على سلاح نووي، فإن الخيارات ربما تنحصر في هذه المرحلة ما بين روسيا وباكستان، لكن لا يعرف إلى أي مدى يمكن أن تقبل إحدى هذه القوى بمد أنقرة بالتكنولوجيا النووية رغم العلاقات المميزة التي تجمع أردوغان بزعماء البلدين.
ومنذ وصول عمران خان إلى سدة الحكم ورئاسة وزراء باكستان، ربطته علاقة مميزة مع أردوغان، وتاريخياً، تقول مصادر تركية إن أنقرة قادت محاولة سابقة بين عامي 1982 و1984 للحصول على تقنية السلاح النووي من باكستان والحصول على أجهزة الطرد المركزي التي يعتقد أن باكستان باعتها إلى إيران وكوريا الشمالية أيضاً.
أما الخيار الروسي، يبدو معقداً بشكل كبير، ومرتبط بمدى استعداد تركيا لإنهاء علاقتها تماماً بالولايات المتحدة والناتو والتوجه نحو روسيا، لكن الأعقد هو مدى إمكانية قبول روسيا بمد تركيا بهذه التقنية الاستراتيجية، وذلك من أجل توجيه ضربة تاريخية للناتو والمعسكر الغربي.
وأي مشروع تركي للعمل على الحصول على السلاح النووي، يوجب على تركيا الانسحاب من معاهدة انتشار الأسلحة النووية، وتحمل ضغوط دولية هائلة يقول معارضون أتراك إنها ربما تحول تركيا إلى نموذج إيراني جديد محاصر من قبل العالم، وهو ما يدفعهم لرفض دخول بلادهم في سباق للحصول على السلاح النووي.