وصلتني مجددا نسائم محبة شامية من إسطنبول تقول : يا مريم البتول.. حديثينا عن الحب وعن أعاجيبه فإنّ نفسي تحب أن تسمع منك.
أجابت : هو تماما كما حيث أنت. أوليست إسطنبول مدينة المآذن والكنوز والتلال السبع. كذلك هو الحب حين يأتي.
يرتفع كالآذان المدوي من مآذن الروح في استسلام تام للوقت الذي اختارته حركة دوران الشمس. وهو كالكنز النادر الذي يحتاج للمغامر جريء في البحث عنه فيكون نصيبه حظ علاء الدين ببساطه السحري الذي أراه الأعاجيب بعد أن ألقى بنفسه في مغارة الموت. وهو كأجنحة ملك السماء طائر الباز، يرفعك فوق سبعة بكلمة واحدة. وهو حاد كالسيف إن كان مصيره الموت المحتم.
أما علاماته فلا تخفى عن أحد. حمى في المفاصل إن وصل ذروة العشق. صمت وفكر وذبول وشحوب في البدن لا يزيحهم إلاّ رؤية المحبوب. ولا أصعب من نظرة العين المكسورة من غير حول لها ولا قوة. وقد قيل أن كل شيء سلف ودين، فأي دين وأي سلف في حياة لم تكن اختيارا وموت كان إجبارا. الأمر يحتاج إلى فكر وتدبر وتمعن.
في نفس الوقت وحتى نفقه كل هذا علينا أن لا ننسى مسألتين اثنتين كلاهما مهم لنفهم حديث الحب والعشق.
فحين نود الحديث عن الحب فعلينا أن لا نغفل عن مبدأ كلما اتسع المعنى ضاقت العبارة، فهو واسع بوسع الأنفس والتجارب والمطامع منه وفيه. وأن نتذكر ونحن نتحدث وننصح مع نشوان الهوى أو جريحه أن القول أسهل من الفعل، فمن ذاق وعرف ليس كمن سمع.
أما الفرق بين الحب والعشق فهو كالقمر والشمس. الحب قمري مسالم يحكمه المسموح والممنوع والممكن تماما كدورانه المحكم بتفاصيل كونية ويقتبس نوره من بعيد من عالم أكبر منه، أما العاشق فهو كالشمس التي تنتهي معها كل الحسابات والتفكير والخوف من المخاطر لأن حياتها وسطوعها أمر واحد. نظرة الحبيب القمري هي نظرة خمول وتمني وفرحه فرح نشوة اللطائف. بينما نظرة الحبيب الشمسي هي دعوة تصدح بالنداء للحياة الأزلية وعشق الروح الذي لا يفنى وفرحه فرح الولادة وأنفاس الحياة الأبدية.
العشق يجعلك ترى بواطن الملامح والحواس. الصوت يصبح ترانيم والوجه رحاب من نور والمجالسة لذة وصال ومؤانسة ترفع أمامك عظمة قوله تعالى “وجعلنا بينكم مودة ورحمة”. أما المرأة فيغلب عليها الرقة والأنوثة والضعف. وأما الرجل فيصبح في حيرة وتساؤل وراحة قلقة. هذا لأن عشق الرجل نادر الحدوث لمعرفته أن قلبه اعتاد التنقل ولو بينه وبين نفسه، أما المرأة فلثباتها فهي تشعر بالهدوء إن حدث لها ذلك. خاصة وأن العشق أخذ وعطاء في الروح وإن تفارقت الأجساد.
يسألني الدمشقي : يا مريم.. هل الحب ساحر أم أنت هي الساحرة ؟. فإن كان هذا هو حديثك عنه فكيف إذن هو حبك الخاص لمن جعلتيه خاص؟
أجيب : هذا ليس سحرا بل هو التمعن والنظر وتحري الدقة في وصف ما خفي عن البصر. ولا يغرنك كثرة الحديث فأكثر من حرم من الحب أهله. وإلا لما تعذب ابن العربي وابن زيدون وابن الملوح. ولما اشتد الناس على المعتمد ولا ماتت خديجة بنت خويلد تاركة النبي الأكرم باكيا حزينا، صل الله عليه وسلم.
يسألني : ما هو أقصى وصف في نظرك لحدود نشوة التلاقي الروحي..؟
أجيب : لدي دائما يقين قاطع وإيمان راسخ أن هناك أرواح إذا ما تلاقت فإنك تلتقي عبرهم بنوافذ السماء تطل بها على الله حسب قدر باطنك. وقد جرت العادة أن يبحث الصوفي عن مرشد ومعلم ومربي للوصول وهذا أمر حسن، لكنه لن يصل لشيء أكثر من علوم وتوجيهات وبيان وعمق الشفاف حدودها سقف السماء وعلم البشر. أما إن بحث عن العشق، فهو يكون بذلك قد بحث عن الروح التي علمها وأمرها وحدودها عند الله وحده.
يسألني : أحقا ما عشقت من قبل؟؟!
أجيب : رأيت قديما رؤيا عجبا. لا أنسى إحساسها أبدا. رجال لباسهم البياض يرأسهم رجل فاض النور من وجهه ومن بين صدره. فضممته واستقبلي حضنه، فهِمت في تجليات السكينة والود وأنوار تلامس الروح، فلا يعود العادي مغريا لك بعدها. وقد همس في أذني يحدثني يقول “هل تعلمين أن الضمة لغة الحكمة. تنوب عن الكلام فيسري فيها مما لا تستوعبه الحروف والكلمات”. ثم نظر إلي وأكمل: “أفهمتيني يا نبع الحكمة ومظهر الجمال وروح من تعلق بك”. ثم ذهب.
يسألني : فكيف يفعل من كسر قلبه ولم ينال مطلبه؟
أجيب : تسطع المحبة في مقامين اثنين. التضحية والإيثار. التضحية تنازلات على مضض والإيثار عطاء على حساب النفس وكأنها النفس وهو مقام الإيمان فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. إمنح تعش حياة الخلود، وإن كان للمرء نصيب فتحت له أبواب السماء من حيث لا يدري عبر منافذ العشق.
يسألني : وما أول الخلود يا مريم؟
أجيب : الشعر والبيان وفصاحة اللسان شرط صدق القول. فلم يبقى ممن ذهب إلاّ الشعر وأثر القول. وقد جعل الله القرآن معجزة آخر الزمان. وقد كان أول القول “يا محمد… إقرأ”.
يسألني : هل يمكن للمرء أن يهرب من العشق؟
أجيب : لا.. فهو أبرع من طارد ولاحق. وإن أخفى أحدهم عن الآخر وإن باعدت بينهم الأمصار. لأن العشق تشابه الحال. فإن حدث ذلك زاد وقع الوصال والإحساس وهو ما قاله الحلاج في وصف تابعة كل حال : إلاّ وحبك مقرون بأنفاسي. إلاّ وأنت حديثي بين جلاسي، إلاّ وأنت بقلبي بين وسواسي. إلاّ رأيت خيالا منك في الكأس. وعلى هذا قس.
يسألني : من أين لك كل هذا يا مريم ؟
أجيب : هو مما وجدته في نفسي وعايشته في غيري ومن أثر سؤالك لي أيها الدمشقي الحاذق في السؤال. وشكرا لأنك في اسطنبول فقد لاحت لي منك نسائم هواء بحرها في غابر الزمان، وقد خيلتني أجلس في شاطئه في لمة خلان، مما جعلني أكثر عليك دون قصد مني فاعذرني. وسلامي لإسطنبول التي راودتني في أحلامي مؤخرا. لعلها تناديني لزيارة قريبة.
الدمشقي : بل تحدثي وأفيضي علينا من روحك فلحديث الروح حلاوة، ونحن في انتظارك بيننا.. فأهلا وسهلا بك على الرحب والسعة.
مريم عرجون مدونة مغربية